فاعجب لحسن الاختيار في قوله الربيع الطلق ويفتقها برد الندى وتنصب فيها وفود الماء وريق الغيث، بل انظر في هذه الأبيات كلها هل يمكن استبدال لفظ منها بلفظ أظهر اناقة وانعم صقلا وأبهى رونقا.
على أن براعة البحتري في انتقاء مفرداته ما كانت لتغنيه لولا أنه برع كذلك في صياغة جملة من هذه الألفاظ فعل الصانع الماهر الذي لا يكتفي بان يجيد اختيار الجواهر للعقد بل يجيد كذلك نظمها وتركيبها في السلك، فيراعي النسب بين جوهرة وأخرى ويتحاشى التنافر بينها ويصوع منها عقدا منسجما، لكن عند هذا الحد يجب أن تنتهي المقايسة بين الشاعر الذي أداته الألفاظ والصائغ الذي أداته الجواهر ذلك أن الشاعر لا يكفيه أن يراعي النسب بين ألفاظه ولا أن يتحاشى التنافر بينها ولا أن يصوع منها نظما بل عليه وهو يجمع اللفظ إلى اللفظ أن يديم الالتفات إلى المعنى، إذ لا قيمة للكلام مهما حسنت مفرداته وائتلفت مخارجها في النطق وطابت مواقعها في السمع إلا أن يستقيم لها معنى مقصود تناديه فيلبيها.
ومن هذا الوجه أيضا نلقى البحتري صائغا متقنا. فهو لا يقتصر على مراعاة النسب بين ألفاظه لكي ينفي التنافر والثقل عن تركيب جمله، بل يتعدى ذلك إلى مراعاة النسب بين تلك الجمل والمعاني التي يختصها بالقصد.
وأبرز الصفات التي تتحلى بها جمل البحتري من حيث صلتها بالمعنى أنها واضحة مشرقة قلما يكلفك فهمها كدا أو عناء. ومرد ذلك إلى أن أبا عبادة يقصر جمله ولا يحشوها بالمعترضات ولا يسرف في حذف أو تقديم أو تأخير، وإنما يذكر كل ما يرى ذكره يزيد في وضوح العبارة، ويجعل كل قسم من أقسام الجملة في موقعه المألوف، فالفعل في حيث يجب أن يكون الفعل، والفاعل بعد الفعل، وكذلك المبتدأ والخبر على ترتيبهما المعتاد الخ... حتى جاء في كتاب يتيمة الدهر للثعالبي:
إن شعر البحتري كتابة معقودة بالقوافي والمراد بذلك أن البحتري قد ملك ناصية النظم بقدر لو شئنا معه أن نحل شعره من قيد الوزن والقافية فنجعله نثرا لما وجدنا سبيلا إلى تحويل الكلام عن صورته الأولى بحذف قسم من أقسام الجملة أو تقديمه أو تأخيره. وإليك مثلا قوله في وصف الخريف:
لاحت تباشير الخريف وأعرضت * قطع الغمام وشارفت أن تهطلا وقوله في وصف موكب المتوكل يوم عيد الفطر:
فالخيل تصهل والفوارس تدعي * والبيض تلمع والأسنة تزهر ثم قوله في مدح التواضع:
تواضع من مجد له وتكرم * وكل عظيم لا يحب التعظما فتأمل، هل ترى الوزن والقافية قد كلفا الشاعر خروجا عما هو المألوف في كتابة أسهل النثر وأسلسله، ثم تأمل هل ترى أنصع بيانا من هذا الكلام الذي يوشك أن يهجم معناه على ذهنك قبل أن تصل أصداؤه إلى أذنك.
وإن حرص البحتري على هذا الوضوح والصفاء والتأنق في سبكه اللفظ على المعنى، لماثل أيضا في اجتنابه صور التعبير الغامضة أو البعيدة.
فتراه قريب التشابيه صريح الكنايات داني الاستعارات، ولا يعسف عسفا في طلب المجاز أو البديع شأن أبي تمام مثلا في الكثير من مواقفه.
فاسمع أبا عبادة يصف لك منظر جبال لبنان من دمشق:
تلفت من عليا دمشق ودوننا * للبنان هضب كالغمام المعلق شبه الجبال اللبنانية بالسحب البيضاء المعلقة بالفضاء وهو تشبيه مستملح يدرك في غير مؤونة ولا ارهاق خاطر.
واسمعه في المقطع الذي وصف به قتاله مع الذئب يكنى عن قلب الذئب هذه الكناية اللطيفة التي لا يحتاج في فهمها إلى مشقة ولا إعنات:
فاتبعتها أخرى فأضللت نصلها بحيث يكون اللب والرعب والحقد يقول أنه سدد إلى الذئب نبلة أخرى فغاصت عميقا في موضع اللب منه والرعب والحقد، أي: القلب. وكذلك أسمعه يستعير النوم واليقظة للورود التي كانت أكماما فتفتحت في عيد النوروز:
وقد نبه النوروز في غلس الدجى * أوائل ورد كن بالأمس نوما وهي استعارة تبلغ الغاية في الطبيعة والابداع، ثم أسمعه يأتيك بهذا المجاز الرائق المحبب إذ يجعل الصبا توفي نذورا حين تهب صباح مساء على القصر الجعفري بعد مصرع صاحبه المتوكل:
كان الصبا توفي نذورا إذا انبرت * تراوحه أذيالها وتباكره وهكذا يتبين لك أن البحتري لا يلتمس إلا كل صورة شفافة رائعة من صور التعبير. كما تبين لك من قبل أنه لا يقبل من مفردات اللفظ إلا على المأنوس المنقح الأنيق، ولا يعول من الجمل إلا على الواضح المشرق.
ولهذا لقبه ابن رشيق صاحب كتاب العمدة بأنه شيخ الصناعة الشعرية، ونعت النقاد شعره بسلاسل الذهب، وضربوا المثل بالديباجة البحترية أي: جمال النسج في كلامه. ولهذا أيضا شهد له ابن الأثير بحق أنه أحسن سبك اللفظ على المعنى.
ولكن ابن الأثير قرن هذه الخاصية في البحتري بخاصية أخرى هي أنه أراد أن يشعر فغنى. بل الأصح أن نقول أن النقادة الشهير إنما أثبت الخاصية الأولى عند البحتري كالتمهيد لخاصيته الثانية وهي أن أبا عبادة شاعر أجمل ما في شعره عنصر الجرس الموسيقي. فهل نرى ابن الأثير انصف أبا عبادة في حكمه هذا حين جعل بالنتيجة مدار الجمال في شعره على النغم والإيقاع، فقال أنه أراد أن يشعر فغنى، ثم أعاد الكرة فقال:
هو على الحقيقة قبة الشعراء في الاطراب.
الواقع أننا حين نطلب الفكرة في شعر البحتري لا نلبث أن نجد حظه منها عاديا مألوفا. فليس في معانيه غوصات تأمل وجهد عقلي كالتي نجدها عند الشعراء المثقفين كابي نواس وأبي تمام وابن الرومي والمتنبي وسبب ذلك أن البحتري وهو البدوي النشأة لم يتوفر له قسط كبير من الثقافة إلا فيما يتصل بآلة اللغة. يضاف إلى ذلك أنه لم يكن واسع المطامح، وقد وفق من طريق شعره إلى حياة خاصة أبعد ما تكون عن