العباد لا تكون هي حجة لأحد الخصمين على الآخر في الدفع ولا في الايجاب لا في الابقاء ولا في الاثبات ابتداء.
فأما الفريق الأول احتجوا وقالوا: أقوى المناظرة ما يكون في إثبات التوحيد وفي أمور النبوة، فقد علمنا الله تعالى الاحتجاج بلا دليل على نفي الشرك بقوله: * (ومن يدع مع الله إلها آخر لا برهان له به) * ورسول الله (ص) كان يجادل المشركين في إثبات نبوته، وكانوا ينفون ذلك وهو يثبت، ثم كانوا لا يطالبون على هذا النفي بشئ فوق قولهم لا دليل على نبوته، واشتغل بعد جحودهم بإثبات نبوته بالآيات المعجزة، والبراهين القاطعة، فعرفنا بهذا أن لا دليل حجة للنافي على خصمه إلى أن يثبت الخصم ما يدعي ثبوته بالدليل، وهذا لان النافي إنما لا يطالب بدليل لكونه متمسكا بالأصل وهو عدم الدليل الموجب أو المانع والمحرم أو المبيح، ووجوب التمسك بالأصل إلى أن يظهر الدليل المغير له طريق في الشرع، ولهذا جعل الشرع البينة في جانب المدعي لا في جانب المنكر، لأنه متمسك بالأصل وهو أنه لا حق للغير في ذمته ولا في يده وذلك حجة له على خصمه في الكف عن التعرض له ما لم يقم الدليل، وأيد ما ذكرنا قوله تعالى: * (قل لا أجد فيما أوحي إلي محرما) * الآية، فقد علم نبيه عليه السلام الاحتجاج بعدم الدليل الموجب للحرمة على الذين كانوا يثبتون الحرمة في أشياء كالسائبة والوصيلة والحام والبحيرة، فثبت بهذا أن لا دليل حجة للنافي على خصمه. وهذا الذي ذهبوا إليه غير موافق لشئ من العلل المنقولة عن السلف في نفي الحكم وإثباته وهو ينتهي إلى الجهل أيضا، فإنا نقول لهذا القائل: لا دليل على الاثبات عندك أو عند غيرك فإن خصمك يدعي قيام الدليل عنده، وكما أن دعواه الدليل عنده لا يكون حجة عليك حتى تبرزه فدعواك عليه أن لا دليل عندي لا يكون حجة عليه، وإن قلت لا دليل عندي فهذا إقرار منك بالجهل والتقصير في الطلب، فكيف يكون حجة على غيرك! وإن انعدم منك التقصير في الطلب فأنت معذور إذا لم تقف على الدليل وعذرك لا يكون