فوجه من ذلك ما علمنا رسول الله (ص) من طريق المقايسة، على ما روي أنه قال لعمر حين سأله عن القبلة في حالة الصوم: أرأيت لو تمضمضت بماء ثم مججته أكان يضرك؟ وهذا تعليم المقايسة فإن بالقبلة يفتتح طريق اقتضاء الشهوة، ولا يحصل بعينه اقتضاء الشهوة، كما أن بإدخال الماء في الفم يفتتح طريق الشرب ولا يحصل به الشرب. وقال للخثعمية: أرأيت لو كان على أبيك دين أكنت تقضينه؟ فقالت: نعم، قال: فدين الله أحق وهذا تعليم المقايسة وبيان بطريق إعمال الرأي. وقال للذي سأله عن قضاء رمضان متفرقا، أرأيت لو كان عليك دين فقضيت الدرهم والدرهمين أكان يقبل منك؟ قال: نعم، فقال: الله أحق بالتجاوز وقال للمستحاضة:
إنه دم عرق انفجر فتوضئي لكل صلاة فهذا تعليم للمقايسة بطريق أن النجس لما سال حتى صار ظاهرا ووجب غسل ذلك الموضع للتطهير وجب تطهير أعضاء الوضوء به. وقال عليه السلام: الهرة ليست بنجسة لأنها من الطوافين عليكم والطوافات وهذا تعليم للمقايسة باعتبار الوصف الذي هو مؤثر في الحكم فإن الطوف مؤثر في معنى التخفيف، ودفع صفة النجاسة لأجل عموم البلوى والضرورة، فظهر أنه علمنا القياس والعمل بالرأي كما علمنا أحكام الشرع، ومعلوم أنه ما علمنا ذلك لنعمل به في معارضة النصوص، فعرفنا أنه علمنا ذلك لنعمل به فيما لا نص فيه.
ووجه آخر أنه عليه الصلاة والسلام أمر أصحابه بذلك، فإنه قال لمعاذ رضي الله عنه حين وجهه إلى اليمن: بم تقضي؟ قال: بكتاب الله قال: فإن لم تجد في كتاب الله؟ قال: بسنة رسول الله. قال فإن لم تجد في سنة رسول الله؟ قال: اجتهد رأيي. قال: الحمد لله الذي وفق رسول رسوله لما يرضى به رسوله وقال لأبي موسى رضي الله عنه حين وجهه إلى اليمين: اقض بكتاب الله، فإن لم تجد فبسنة رسول الله، فإن لم تجد فاجتهد رأيك وقال لعمرو بن العاص رضي الله عنه: اقض بين هذين قال: على ماذا أقضي؟ فقال على أنك إن اجتهدت فأصبت