وفي طريق العلم كذلك فهم قد شاهدوا أحوال من ينزل عليه الوحي وسمعوا منه، وإنما انتقل إلينا ذلك بخبرهم وليس الخبر كالمعاينة.
فإن قيل: أليس أن تأويل الصحابي للنص لا يكون مقدما على تأويل غيره ولم يعتبر فيه هذه الأحوال فكذلك في الفتوى بالرأي؟ قلنا: لان التأويل يكون بالتأمل في وجوه اللغة ومعاني الكلام، ولا مزية لهم في ذلك الباب على غيرهم ممن يعرف من معاني اللسان مثل ذلك. فأما الاجتهاد في الاحكام إنما يكون بالتأمل في النصوص التي هي أصل في أحكام الشرع، وذلك يختلف باختلاف الأحوال ولأجله تظهر لهم المزية بمشاهدة أحوال الخطاب على غيرهم ممن لم يشاهد، ولا يقال هذه أمور باطنة وإنما أمرنا ببناء الحكم على ما هو الظاهر، لان بناء الحكم على الظاهر مستقيم عندنا ولكن في موضع يتعذر اعتبارهما جميعا، فأما عند المقابلة لا إشكال أن اعتبار الظاهر والباطن جميعا يتقدم على مجرد اعتبار الظاهر (وفي الاخذ بقول الصحابي اعتبارهما وفي العمل بالرأي اعتبار الظاهر) فقط هذا مع ما لهم من الفضيلة بصحبة رسول الله (ص) والتفقه في الدين سماعا منه، وشهادة رسول الله (ص) لهم بالخيرية بعده وتقديمهم في ذلك على من بعدهم بقوله: خير الناس قرني الحديث، وقال: لو أنفق أحدكم مثل أحد ذهبا ما أدرك مد أحدهم ولا نصيفه فعرفنا أنهم يوفقون لإصابة الرأي ما لا يوفق غيرهم لمثله فيكون رأيهم أبعد عن احتمال الخطأ من رأي من بعدهم، ولا حجة في قوله تعالى: * (فاعتبروا) * لان تقديم قولهم بهذا الطريق نوع من الاعتبار فالاعتبار يكون بترجيح أحد الدليلين بزيادة قوة فيه، وكذلك قوله تعالى: * (فردوه إلى الله والرسول) * لان في تقديم فتوى الصحابي رد الحكم إلى أمر الرسول عليه السلام، لان الرسول عليه السلام قد دعا الناس إلى الاقتداء بأصحابه بقوله بأيهم اقتديتم اهتديتم وإنما كان لا يدعو الواحد منهم غيره إلى قوله لان ذلك الغير إن أظهر قولا بخلاف قوله فعند تعارض القولين منهما تتحقق المساواة بينهما وليس أحدهما بأن يدعو صاحبه إلى قوله بأولى من الآخر، وإن لم يظهر منه قول بخلاف ذلك فهو لا يدري