القياس فإنما عنى به إلحاقه بأصل آخر وقياسه عليه، دون الحلف بدخول الدار، فسمي الاستحسان قياسا في هذا الوجه، وهو لعمري كذلك فيما بيناه.
ومن نظيره أيضا: المشي في الصلاة أنه معلوم أن القليل منه معفو عنه غير مفسد لها. ألا ترى: أن أبا بكرة ركع دون الصف ثم مشى حتى صار في الصف فقال (له) النبي صلى الله عليه وسلم: (زادك الله حرصا ولا تعد)، ولم يأمره باستئناف الصلاة.
وروي عن ابن عباس (أنه قام عن يسار النبي صلى الله عليه وسلم يصلي فأداره إلى يمينه) ولم يأمره باستئنافها. وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم (كان يصلي فمرت بهيمة فتقدم النبي صلى الله عليه وسلم حتى لصق بالحائط فمرت البهيمة خلفه)، فكان المشي اليسير معفو عنه.
ومعلوم (مع ذلك): أنه لو مشى في صلاته ميلا أو نحوه فسدت صلاته، ولو جعل كل خطوة منها بحكم نظيرها مما لا تقدم، لوجب أن لا تفسد صلاته، وإن مشى ميلا قياسا على المشي اليسير، إلا أنه لما كان هنا أصل آخر قد اتفق المسلمون عليه، وهو المشي الكثير الذي ليس من عمل الصلاة، أنه يفسدها، جعلوا المشي ما دام في المسجد ولم يستدبر القبلة في حكم الخطوة والسير، وأفسدوا الصلاة بالخروج من المسجد، لان ذلك يشبه سائر الأفعال التي ليست من الصلاة.
ومن نظائر ذلك: مسألة يشنع بها المخالفون على أصحابنا، حين قالوا في قوم نقبوا بيتا ودخلوه وسرقوا متاعا ولي بعضهم إخراجه دون الباقين: إن القياس أن يقطع الذي ولي إخراجه دون من سواه، ولكنا نستحسن فنقطعهم جميعا.
فيشنعوا عليهم حين استحسنوا إيجاب القطع، وتركوا القياس فيه، ومن شأن الحدود درؤها بالشبهات.
وذهب عليهم: أنه لا شبهة في الحد مع قيام الدلالة على إيجابه.