وأما قوله: إن اتساقها وعدم مقاومة أخرى لها دلالة على صحتها، فإنا قد قلنا: إن الأصول قد دفعتها من الوجه التي ذكرنا.
ولو كان مثله دليلا على صحة العلة لجاز أن يقال مثله في نفس المذهب.
فيقول: إن الدليل على صحة مذهبي أنه متسق لا يدفعه أصل، ولا يقاومه مذهب غيره، ولم تقم الدلالة على فساده، لأنه لو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا، فلما امتنع أن يكون مثله دليلا على صحة المذهب كان كذلك حكم العلة.
فإن قال: إن دعوى المذهب يقاومها الخصم بضدها.
قيل: ودعوى العلة يقاومها دعوى الخصم أنها علة فاسدة، وأن مذهبي صحيح، فدل على صحة اعتلالك.
ألا ترى: أن جري العلة معلولها إنما هو دعواك وقولك غير مقرون بدليل، لأنك إذا سئلت عن علة تحريم التفاضل في البر بالبر فقلت: إنه مأكول جنس، فاستدللت عليه بأنه جار في معلوله، كان حقيقة هذا القول: أن الدليل عليه، أني قلت في البطيخ والرمان (والعدس) والأرز ونحوها من المأكولات، فلم تحصل منها إلا على الدعوى.
وهذا الضرب من الدعاوي يكفي في معارضتها قول الخصم: ليس هذا كما ادعيت لا في هذا الأصل الذي ذكرت، ولا في غيره كالمذهب نفسه. إذا خالفك خصمك فيه، كان خلافه إياك معارضا لقولك، ومقاوما لمذهبك، إذا لم تعضده بدلالة، فتحصل أنه وهو على الدعوى.
ويقال له: أليس القائلون بعلة تحريم التفاضل على اختلافهم فيها قد أجرى كل منهم علته في معلولها، فواجب على هذه القضية، أن تكون كلها صحيحة، وهذا خلاف الإجماع، لان الاتفاق قد حصل أن الصحيح من هذه العل هي واحدة منها، ثم قد قاومت كل واحدة صاحبتها في باب جريها في معلولها، ثم مع ذلك لا يعوز خصمك في كل علة تعتل بها وتقتصر في الاستدلال على صحتها على ما ذكرت، أن ينصب علة بإزاء علتك موجبة للحكم بضد موجب علتك، معارضة لها وتجريها في معلولها.