ومنه الحديث: " كان الرجل إذا قرأ سورة البقرة جد فينا " أي جد قدره وعظم، لأن الصاحبة تتخذ للحاجة إليها والولد للتكثر به والاستئناس، وهذه من سمات الحدوث وهو سبحانه منزه عن كل نقص.
القول الثاني: الجد الغنى ومنه الحديث: " لا ينفع ذا الجد منك الجد " قال أبو عبيدة: أي لا ينفع ذا الغنى منك غناه، وكذلك الحديث الآخر: " قمت على باب الجنة فإذا عامة من يدخلها الفقراء وإذا أصحاب الجد محبوسون " يعني أصحاب الغنى في الدنيا، فيكون المعنى وأنه تعالى غنى عن الاحتياج إلى الصاحبة والاستئناس بالولد.
وعندي فيه قول ثالث: وهو أن جد الإنسان أصله الذي منه وجوده فجعل الجد مجازا عن الأصل، فقوله: * (تعالى جد ربنا) * معناه تعالى أصل ربنا وأصله حقيقته المخصوصة التي لنفس تلك الحقيقة من حيث إنها هي تكون واجبة الوجود فيصير المعنى أن حقيقته المخصوصة متعالية عن جميع جهات التعلق بالغير لأن الواجب لذاته يجب أن يكون واجب الوجود من جميع جهاته، وما كان كذلك استحال أن يكون له صاحبة وولد.
المسألة الثانية: قرىء * (جدا ربنا) * بالنصب على التمييز و * (جد ربنا) * بالكسر أي صدق ربوبيته وحق إلهيته عن اتخاذ الصاحبة والولد، وكأن هؤلاء الجن لما سمعوا القرآن تنبهوا لفساد ما عليه كفرة الجن فرجعوا أولا عن الشرك وثانيا عن دين النصارى.
النوع الثالث: مما ذكره الجن قوله تعالى:
* (وأنه كان يقول سفيهنا على الله شططا) *.
السفه خفة العقل والشطط مجاوزة الحد في الظلم وغيره ومنه أشط في السوم إذا أبعد فيه أي يقول قولا هو في نفسه شطط لفرط ما أشط فيه.
واعلم أنه لما كان الشطط هو مجاوزة الحد، وليس في اللفظ ما يدل على أن المراد مجاوزة الحد في جانب النفي أو في جانب الإثبات، فحينئذ ظهر أن كلا الأمرين مذموم فمجاوزة الحد في النفي تفضي إلى التعطيل ومجاوزة الحد في الإثبات تفضي إلى التشبيه، وإثبات الشريك والصاحبة والولد وكلا الأمرين شطط ومذموم.
النوع الرابع: قوله تعالى:
* (وأنا ظننآ أن لن تقول الإنس والجن على الله كذبا) *.
وفيه مسألتان:
المسألة الأولى: معنى الآية أنا إنما أخذنا قول الغير لأنا ظننا أنه لا يقال: الكذب على الله، فلما سمعنا القرآن علمنا أنهم قد يكذبون، وهذا منهم إقرار بأنهم إنما وقعوا في تلك الجهالات