البحث الأول: أنهم قالوا: نشهد إنك لرسول الله، فلو قالوا: نعلم إنك لرسول الله، أفاد مثل ما أفاد هذا، أم لا؟ نقول: ما أفاد، لأن قولهم: نشهد إنك لرسول الله، صريح في الشهادة على إثبات الرسالة، وقولهم: نعلم ليس بصريح في إثبات العلم، لما أن علمهم في الغيب عند غيرهم.
ثم قال تعالى: * (اتخذوا أيمانهم جنة فصدوا عن سبيل الله إنهم سآء ما كانوا يعملون * ذلك بأنهم ءامنوا ثم كفروا فطبع على قلوبهم فهم لا يفقهون) *.
قوله: * (اتخذوا أيمانهم جنة) * أي سترا ليستتروا به عما خافوا على أنفسهم من القتل.
قال في " الكشاف ": * (اتخذوا أيمانهم جنة) * يجوز أن يراد أن قولهم: * (نشهد أنك لرسول الله) * يمين من أيمانهم الكاذبة، لأن الشهادة تجري مجرى الحلف في التأكيد، يقول الرجل: أشهد وأشهد بالله، وأعزم وأعزم بالله في موضع أقسم وأولى: وبه استشهد أبو حنيفة على أن أشهد يمين، ويجوز أن يكون وصفا للمنافقين في استخفافهم بالإيمان، فإن قيل: لم قالوا نشهد، ولم يقولوا: نشهد بالله كما قلتم؟ أجاب بعضهم عن هذا بأنه في معنى الحلف من المؤمن وهو في المتعارف إنما يكون بالله، فلذلك أخبر بقوله: نشهد عن قوله بالله. وقوله تعالى: * (فصدوا عن سبيل الله) * أي أعرضوا بأنفسهم عن طاعة الله تعالى، وطاعة رسوله، وقيل: صدوا، أي صرفوا ومنعوا الضعفة عن اتباع رسول الله صلى الله عليه وسلم * (ساء) * أي بئس * (ما كانوا يعملون) * حيث آثروا الكفر على الإيمان وأظهروا خلاف ما أضمروا مشاكلة للمسلمين.
وقوله تعالى: * (ذلك بأنهم آمنوا ثم كفروا) * ذلك إشارة إلى قوله: * (ساء ما كانوا يعملون) * قال مقاتل: ذلك الكذب بأنهم آمنوا في الظاهر، ثم كفروا في السر، وفيه تأكيد لقوله: * (والله يشهد إنهم لكاذبون) * وقوله: * (فطبع على قلوبهم فهم لا يفقهون) * لا يتدبرون، ولا يستدلون بالدلائل الظاهرة. قال ابن عباس: ختم على قلوبهم، وقال مقاتل: طبع على قلوبهم بالكفر فهم لا يفقهون القرآن، وصدق محمد صلى الله عليه وسلم، وقيل: إنهم كانوا يظنون أنهم على الحق، فأخبر تعالى أنهم لا يفقهون أنه طبع على قلوبهم، ثم في الآية مباحث: البحث الأول: أنه تعالى ذكر أفعال الكفرة من قبل، ولم يقل: إنهم ساء ما كانوا يعملون، فلم قلنا هنا؟ نقول: إن أفعالهم مقرونة بالأيمان الكاذبة التي جعلوها جنة، أي سترة لأموالهم ودمائهم عن أن يستبيحها المسلمون كما مر.