فإذا يجب في الملك والجن أن يكون كذلك، ثم إن هؤلاء الملائكة حاضرون عندنا أبدا، وهم الكرام الكاتبون والحفظة، ويحضرون أيضا عند قبض الأرواح، وقد كانوا يحضرون عند الرسول صلى الله عليه وسلم، وأن أحدا من القوم ما كان يراهم، وكذلك الناس الجالسون عند من يكون في النزع لا يرون أحدا، فإن وجبت رؤية الكثيف عند الحضور فلم لا نراها وإن لم تجب الرؤية فقد بطل مذهبهم، وإن كانوا موصوفون بالقوة والشدة مع عدم الكثافة والصلابة فقد بطل قولهم: إن البنية شرط الحياة، وإن قالوا: إنها أجسام لطيفة وحية، ولكنها للطافتها لا تقدر على الأعمال الشاقة، فهذا إنكار لصريح القرآن، وبالجملة فحالهم في الإقرار بالملك والجن مع هذه المذاهب عجيب، وليتهم ذكروا على صحة مذاهبهم شبهة مخيلة فضلا عن حجة مبينة، فهذا هو التنبيه على ما في هذا الباب من الدقائق والمشكلات، وبالله التوفيق.
المسألة الثانية: اختلفت الروايات في أنه عليه الصلاة والسلام هل رأى الجن أم لا؟. فالقول الأول: وهو مذهب ابن عباس أنه عليه السلام ما رآهم، قال: إن الجن كانوا يقصدون السماء في الفترة بين عيسى ومحمد فيستمعون أخبار السماء ويلقونها إلى الكهنة فلما بعث الله محمدا عليه السلام حرست السماء، وحيل بين الشياطين وبين خبر السماء وأرسلت الشهب عليهم فرجعوا إلى إبليس وأخبروه بالقصة فقال: لا بد لهذا من سبب فاضربوا مشارق الأرض ومغاربها واطلبوا السبب فوصل جمع من أولئك الطالبين إلى تهامة فرأوا رسول الله صلى الله عليه وسلم في سوق عكاظ وهو يصلي بأصحابه صلاة الفجر فلما سمعوا القرآن استمعوا له وقالوا هذا والله هو الذي حال بينكم وبين خبر السماء فهناك رجعوا إلى قومهم وقالوا يا قومنا * (إنا سمعنا قرآنا عجبا) * فأخبر الله تعالى محمدا عليه السلام عن ذلك الغيب وقال: * (قل أوحى إلي) * كذا وكذا، قال وفي هذا دليل على أنه عليه السلام لم ير الجن إذ لو رآهم لما أسند معرفة هذه الواقعة إلى الوحي فإن ما عرف وجوده بالمشاهدة لا يسند إثباته إلى الوحي، فإن قيل: الذين رموا بالشهب هم الشياطين والذين سمعوا القرآن هم الجن فكيف وجه الجمع؟ قلنا: فيه وجهان الأول: أن الجن كانوا مع الشياطين فلما رمي الشياطين أخذ الجن الذين كانوا معهم في تجسس الخبر الثاني: أن الذين رموا بالشهب كانوا من الجن إلا أنه قيل لهم: شياطين كما قيل: شياطين الجن والإنس فإن الشيطان كل متمرد بعيد عن طاعة الله، واختلفوا في أن أولئك الجن الذين سمعوا القرآن من هم؟ فروى عاصم عن ذر قال: قدم رهط زوبعة وأصحابه مكة على النبي صلى الله عليه وسلم فسمعوا قراءة النبي صلى الله عليه وسلم ثم انصرفوا فذلك قوله: * (وإذا صرفنا إليك نفرا من الجن) * (الأحقاف: 29) وقيل: كانوا من الشيصبان وهم أكثر الجن عددا وعامة جنود إبليس منهم.
القول الثاني: وهو مذهب ابن مسعود أنه أمر النبي صلى الله عليه وسلم بالمسير إليهم ليقرأ القرآن عليهم ويدعوهم إلى الإسلام، قال ابن مسعود قال عليه الصلاة والسلام: " أمرت أن أتلو القرآن على الجن