ثم إنه تعالى وصف بعد ذلك أحوال وجهه، فقال:
* (ثم عبس وبسر) *.
وفيه مسألتان:
المسألة الأولى: اعلم أن قوله: * (عبس وبسر) * يدل على أنه كان عارفا في قلبه صدق محمد صلى الله عليه وسلم إلا أنه كان يكفر به عنادا، ويدل عليه وجوه: الأول: أنه بعد أن تفكر وتأمل قدر في نفسه كلاما عزم على أنه يظهره ظهرت العبوسة في وجهه ولو كان معتقدا صحة ذلك الكلام لفرح باستنباطه وإدراكه، ولكنه لما لم يفرح به علمنا أنه كان يعلم ضعف تلك الشبهة، إلا أنه لشدة عناده ما كان يجد شبهة أجود من تلك الشبهة، فلهذا السبب ظهرت العبوسة في وجهه الثاني: ما روي أن الوليد مر برسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يقرأ حم السجدة فلما وصل إلى قوله: * (فإن أعرضوا فقل أنذرتكم صاعقة مثل صاعقة عاد وثمود) * (فصلت: 13) أنشده الوليد بالله وبالرحم أن يسكت، وهذا يدل على أنه كان يعلم أنه مقبول الدعاء صادق اللهجة، ولما رجع الوليد قال لهم: والله لقد سمعت من محمد آنفا كلاما ما هو من كلام الإنس ولا من كلام الجن، إن له لحلاوة، وإن عليه لطلاوة، وإنه ليعلو وما يعلى عليه، فقالت قريش: صبأ الوليد ولو صبأ لتصبأن قريش كلها. فقال أبو جهل: أنا أكفيكموه، ثم دخل عليه محزونا فقال مالك: يا ابن الأخ؟ فقال: إنك قد صبوت لتصيب من طعام محمد وأصحابه وهذه قريش تجمع لك مالا ليكون ذلك عوضا مما تقدر أن تأخذ من أصحاب محمد، فقال: والله ما يشبعون فكيف أقدر أن آخذ منهم مالا، ولكني تفكرت في أمره كثيرة فلم أجد شيئا يليق به إلا أنه ساحر، فأقول استعظامه للقرآن واعترافه بأنه ليس من كلام الجن والإنس يدل على أنه كان في ادعاء السحر معاندا لأن السحر يتعلق بالجن والثالث: أنه كان يعلم أن أمر السحر مبني على الكفر بالله، والأفعال المنكرة، وكان من الظاهر أن محمدا لا يدعو إلا إلى الله، فكيف يليق به السحر؟ فثبت بمجموع هذه الوجوه أنه إنما * (عبس وبسر) * لأنه كان يعلم أن الذي يقوله كذب وبهتان.
المسألة الثانية: قال الليث: عبس يعبس فهو عابس إذا قطب ما بين عينيه، فإن أبدى عن أسنانه في عبوسه قيل: كلح، فإن اهتم لذلك وفكر فيه قيل: بسر، فإن غضب مع ذلك قيل: بسل.
* (ثم أدبر واستكبر * فقال إن هذآ إلا سحر يؤثر) *.
أدبر عن سائر الناس إلى أهله واستكبر أي تعظم عن الإيمان فقال: * (إن هذا إلا سحر يؤثر) * وإنما ذكره بفاء التعقيب ليعلم أنه لما ولى واستكبر ذكر هذه الشبهة، وفي قوله: * (يؤثر) * وجهان الأول: أنه من قولهم أثرت الحديث آثره أثرا إذا حدثت به عن قوم في آثارهم، أي بعدما ماتوا هذا هو الأصل، ثم صار بمعنى