المن والاستكثار أي أترك هذا الأمر لأجل مرضاة ربك وثانيها: إذا أعطيت المال فلا تطلب العوض، وليكن هذا الترك لأجل ربك وثالثها: أنا أمرناك في أول هذه السورة بأشياء ونهيناك عن أشياء فاشتغل بتلك الأفعال والتروك لأجل أمر ربك، فكأن ما قبل هذه الآية تكاليف بالأفعال والتروك، وفي هذه الآية بين ما لأجله يجب أن يؤتى بتلك الأفعال والتروك وهو طلب رضا الرب ورابعها: أنا ذكرنا أن الكفار لما اجتمعوا وبحثوا عن حال محمد صلى الله عليه وسلم قام الوليد ودخل داره فقال القوم: إن الوليد قد صبأ فدخل عليه أبو جهل، وقال: إن قريشا جمعوا لك مالا حتى لا تترك دين آبائك، فهو لأجل ذلك المال بقي على كفره، فقيل لمحمد: إنه بقي على دينه الباطل لأجل المال، وأما أنت فاصبر على دينك الحق لأجل رضا الحق لا لشيء غيره وخامسها: أن هذا تعريض بالمشركين كأنه قيل له: * (وربك فكبر) * (المدثر: 3) لا الأوثان * (وثيابك فطهر) * (المدثر: 4) ولا تكن كالمشركين نجس البدن والثياب * (والرجز فاهجر) * (المدثر: 5) ولا تقربه كما تقربه الكفار * (ولا تمنن تستكثر) * (المدثر: 6) كما أراد الكفار أن يعطوا الوليد قدرا من المال وكانوا يستكثرون ذلك القليل * (ولربك فاصبر) * على هذه الطاعات لا للأغراض العاجلة من المال والجاه.
* (فإذا نقر فى الناقور) *.
اعلم أنه تعالى لما تمم ما يتعلق بإرشاد قدوة الأنبياء وهو محمد صلى الله عليه وسلم، عدل عنه إلى شرح وعيد الأشقياء وهو هذه الآية، وههنا مسائل:
المسألة الأولى: الفاء في قوله: * (فإذا نقر) * للسبب كأنه قال: * (اصبر على أذاهم) * فبين أيديهم يوم عسير يلقون فيه عاقبة أذاهم، وتلقى أنت عاقبة صبرك عليه. المسألة الثانية: اختلفوا في أن الوقت الذي ينقر في الناقور، أهو النفخة الأولى أم النفخة الثانية؟ فالقول الأول: أنه هو النفخة الأولى، قال الحليمي في كتاب المنهاج: أنه تعالى سمى الصور باسمين أحدهما الصور والآخر الناقور، وقول المفسرين: إن الناقور هو الصور، ثم لا شك أن الصور وإن كان هو الذي ينفخ فيه النفختان معا، فإن نفخة الإصعاق تخالف نفخة الإحياء، وجاء في الأخبار أن في الصور ثقبا بعدد الأرواح كلها، وأنها تجمع في تلك الثقب في النفخة الثانية، فيخرج عند النفخ من كل ثقبة روح إلى الجسد الذي نزع منه فيعود الجسد حيا بإذن الله تعالى، فيحتمل أن يكون الصور محتويا على آلتين ينقر في إحداهما وينفخ في الأخرى فإذا نفخ فيه للإصعاق، جمع بين النقر والنفخ، لتكون الصيحة أهد وأعظم، وإذا نفخ فيه للإحياء لم ينقر فيه، واقتصر على النفخ، لأن المراد إرسال الأرواح من ثقب الصور إلى أجسادها لا تنقيرها من أجسادها، والنفخة الأولى للتنقير، وهو نظير صوت الرعد، فإنه إذا اشتد فربما مات سامعه، والصيحة الشديدة التي يصيحها رجل بصبي فيفزع منه فيموت، هذا آخر كلام الحليمي رحمه الله