من الإسرار، والجمع بين الإسرار والجهار أغلظ من الجهار وحده، فإن قيل: بم انتصب * (جهارا) *؟ قلنا: فيه وجوه أحدها: أنه منصوب بدعوتهم نصب المصدر، لأن الدعاء أحد نوعيه الجهار، فنصب به نصب القرفصاء بقعد لكونها أحد أنواع القعود وثانيها: أنه أريد بدعوتهم جاهرتهم وثالثها: أن يكون صفة لمصدر دعا بمعنى دعاء جهارا، أي مجاهرا به ورابعها: أن يكون مصدرا في موضع الحال أي مجاهرا.
قوله تعالى:
* (فقلت استغفروا ربكم إنه كان غفارا) *.
قال مقاتل: إن قوم نوح لما كذبوه زمانا طويلا حبس الله عنهم المطر، وأعقم أرحام نسائهم أربعين سنة، فرجعوا فيه إلى نوح، فقال نوح: استغفروا ربكم من الشرك حتى يفتح عليكم أبواب نعمه. واعلم أن الاشتغال بالطاعة سبب لانفتاح أبواب الخيرات، ويدل عليه وجوه أحدها: أن الكفر سبب لخراب العالم على ما قال في كفر النصارى: * (تكاد السماوات يتفطرن منه وتنشق الأرض وتخر الجبال هدا * أن دعو للرحمن ولدا) * (مريم: 90، 91) فلما كان الكفر سببا لخراب العالم، وجب أن يكون الإيمان سببا لعمارة العالم وثانيها: الآيات منها هذه الآية ومنها قوله: * (ولو أن أهل القرى آمنوا واتقوا لفتحنا عليهم بركات) * (الأعراف: 96) * (ولو أنهم أقاموا التوراة والإنجيل وما أنزل إليهم من ربهم لأكلوا من فوقهم) * (المائدة: 66) * (وألو استقاموا على الطريقة لأسقيناهم ماءا غدقا) * (الجن: 16) * (ومن يتق الله يجعل له مخرجا * ويرزقه من حيث لا يحتسب) * (الطلاق: 2 - 3) * (وأمر أهلك بالصلاة واصطبر عليها لا نسألك رزقا نحن نرزقك) * (طه: 132) وثالثها: أنه تعالى قال: * (وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون) * (الذاريات: 56) فإذا اشتغلوا بتحصيل المقصود حصل ما يحتاج إليه في الدنيا على سبيل التبعية ورابعها: أن عمر خرج يستسقي فما زاد على الاستغفار، فقيل له: ما رأيناك استسقيت، فقال: لقد استسقيت بمجاديح السماء. المجدح ثلاثة كواكب مخصوصة، ونوءه يكون عزيزا شبه عمر إلا استغفارا بالأنواء الصادقة التي لا تخطئ، وعن بكر بن عبد الله: أن أكثر الناس ذنوبا أقلهم استغفارا، وأكثرهم استغفارا أقلهم ذنوبا، وعن الحسن: أن رجلا شكا إليه الجدب، فقال: استغفر الله، وشكا إليه آخر الفقر، وآخر قلة النسل، وآخر قلة ريع أرضه، فأمرهم كلهم بالاستغفار، فقال له بعض القوم: أتاك رجال يشكون إليك أنواعا من الحاجة، فأمرتهم كلهم بالاستغفار، فتلا له الآية، وههنا سؤالات: الأول: أن نوحا عليه السلام أمر الكفار قبل هذه الآية بالعبادة والتقوى والطاعة، فأي فائدة في أن أمرهم بعد ذلك بالاستغفار؟ الجواب: أنه لما أمرهم بالعبادة قالوا له: إن كان الدين القديم الذي كنا عليه حقا فلم تأمرنا بتركه، وإن كان باطلا فكيف يقبلنا بعد أن