فمن يذهب معي؟ فسكتوا، ثم قال الثانية فسكتوا، ثم قال الثالثة، فقال: عبد الله قلت أنا أذهب معك يا رسول الله قال: فانطلق حتى إذا جاء الحجون عند شعب ابن أبي دب، خط علي خطا فقال: لا تجاوزه، ثم مضى إلى الحجون فانحدروا عليه أمثال الحجل كأنهم رجال الزط يقرعون في دفوفهم كما تقرع النسوة في دفوفها حتى غشوه، فغاب عن بصري فقمت، فأومأ إلي بيده أن أجلس، ثم تلا القرآن، فلم يزل صوته يرتفع، ولصقوا بالأرض حتى صرت أسمع صوتهم ولا أراهم. وفي رواية أخرى فقالوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم: ما أنت؟ قال: أنا نبي الله، قالوا: فمن يشهد لك على ذلك؟ قال: هذه الشجرة، تعالي يا شجرة، فجاءت تجر عروقها لها قعاقع حتى انصبت بين يديه، فقال على ماذا تشهدين لي؟ قالت: أشهد أنك رسول الله، قال: اذهبي، فرجعت كما جاءت حتى صارت كما كانت. قال ابن مسعود: فلما عاد إلي، قال: أردت أن تأتيني؟ قلت: نعم يا رسول الله قال: ما كان ذلك لك، هؤلاء الجن أتوا يستمعون القرآن، ثم ولوا إلى قومهم منذرين، فسألوني الزاد فزودتهم العظم والبعر، فلا يستطيبن أحد بعظم ولا بعر.
واعلم أنه لا سبيل إلى تكذيب الروايات، وطريق التوفيق بين مذهب ابن عباس، ومذهب ابن مسعود من وجوه أحدها: لعل ما ذكره ابن عباس وقع أولا، فأوحى الله تعالى إليه بهذه السورة، ثم أمر بالخروج إليهم بعد ذلك كما روى ابن مسعود وثانيها: أن بتقدير أن تكون واقعة الجن مرة واحدة، إلا أنه عليه السلام أمر بالذهاب إليهم، وقراءة القرآن عليهم، إلا أنه عليه السلام ما عرف أنهم ماذا قالوا، وأي شيء فعلوا، فالله تعالى أوحى إليه أنه كان كذا وقالوا كذا وثالثها: أن الواقعة كانت مرة واحدة، وهو عليه السلام رآهم وسمع كلامهم، وهم آمنوا به، ثم لما رجعوا إلى قومهم قالوا لقومهم على سبيل الحكاية: * (إنا سمعنا قرآنا عجبا) * وكان كذا وكذا، فأوحى الله إلى محمد صلى الله عليه وسلم ما قالوه لأقوامهم، وإذا كانت هذه الوجوه محتملة فلا سبيل إلى التكذيب.
المسألة الثالثة: اعلم أن قوله تعالى: * (قل) * أمر منه تعالى لرسوله أن يظهر لأصحابه ما أوحى الله في واقعة الجن، وفيه فوائد إحداها: أن يعرفوا بذلك أنه عليه السلام كما بعث إلى الإنس، فقد بعث إلى الجن وثانيها: أن يعلم قريش أن الجن مع تمردهم لما سمعوا القرآن عرفوا إعجازه، فآمنوا بالرسول وثالثها: أن يعلم القوم أن الجن مكلفون كالإنس ورابعها: أن يعلم أن الجن يستمعون كلامنا ويفهمون لغاتنا وخامسها: أن يظهر أن المؤمن منهم يدعو غيره من قبيلته إلى الإيمان، وفي كل هذه الوجوه مصالح كثيرة إذا عرفها الناس.
المسألة الرابعة: الإيحاء إلقاء المعنى إلى النفس في خفاء كالإلهام وإنزال الملك ويكون ذلك في سرعة من قولهم: الوحي الوحي والقراءة المشهورة، * (أوحى) * بالألف، وفي رواية يونس