في صورة فارس يلقاه فوق الحمار ودون البغل، لا تمر بشيء ولا يجد ريحتها شيء إلا حيي.
واعلم أن هذا لا بد وأن يكون مقولا على سبيل التمثيل والتصوير، وإلا فالتحقيق هو الذي ذكرناه. المسألة الثانية: إنما قدم ذكر الموت على ذكر الحياة مع أن الحياة مقدمة على الموت لوجوه: أحدها: قال مقاتل: يعني بالموت نطفة وعلقة ومضغة والحياة نفخ الروح وثانيها: روى عطاء عن ابن عباس قال: يريد الموت في الدنيا والحياة في الآخرة دار الحيوان وثالثها: أنه روي عن النبي صلى الله عليه وسلم: " أن مناديا ينادي يوم القيامة يا أهل الجنة، فيعلمون أنه من قبل الله عز وجل فيقولون: لبيك ربنا وسعديك، فيقول: هل وجدتم ما وعد ربكم حقا قالوا: نعم، ثم يؤتى بالموت في صورة كبش أملح ويذبح ثم ينادي يا أهل الجنة خلود بلا موت، ويا أهل النار خلود بلا موت فيزداد أهل الجنة فرحا إلى فرح، ويزداد أهل النار حزنا إلى حزن " واعلم أنا بينا أن الموت عرض من الأعراض كالسكون والحركة فلا يجوز أن يصير كبشا بل المراد منه التمثيل ليعلم أن في ذلك اليوم قد انقضى أمر الموت، فظهر بما ذكرناه أن أيام الموت هي أيام الدنيا وهي منقضية، وأما أيام الآخرة فهي أيام الحياة وهي متأخرة فلما كانت أيام الموت متقدمة على أيام الحياة لا جرم قدم الله ذكر الموت على ذكر الحياة ورابعها إنما قدم الموت على الحياة لأن أقوى الناس داعيا إلى العمل من نصب موته بين عينيه فقدم لأنه فيما يرجع إلى الغرض له أهم.
المسألة الثالثة: اعلم أن الحياة هي الأصل في النعم ولولاها لم يتنعم أحد في الدنيا وهي الأصل أيضا في نعم الآخرة ولولاها لم يثبت الثواب الدائم، والموت أيضا نعمة على ما شرحنا الحال فيه في مواضع من هذا الكتاب، وكيف لا وهو الفاصل بين حال التكليف وحال المجازاة وهو نعمة من هذا الوجه، قال عليه الصلاة والسلام: " أكثروا من ذكر هازم اللذات " وقال لقوم: " لو أكثرتم ذكر هازم اللذات لشغلكم عما أرى " وسأل عليه الصلاة والسلام عن رجل فأثنوا عليه، فقال: " كيف ذكره الموت؟ قالوا قليل، قال فليس كما تقولون ".
قوله تعالى: * (ليبلوكم أيكم أحسن عملا وهو العزيز الغفور) * وفيه مسائل:
المسألة الأولى: الابتلاء هو التجربة والامتحان حتى يعلم أنه هل يطيع أو يعصي وذلك في حق من وجب أن يكون عالما بجميع المعلومات أزلا وأبدا محال، إلا أنا قد حققنا هذه المسألة في تأويل قوله: * (وإذ ابتلى إبراهيم ربه بكلمات) * (البقرة: 124) والحاصل أن الابتلاء من الله هو أن يعامل عبده معاملة تشبه (الابتلاء) على المختبر.
المسألة الثانية: احتج القائلون بأنه تعالى يفعل الفعل لغرض بقوله: * (ليبلوكم) * قالوا: هذه اللام للغرض ونظيره قوله تعالى: * (إلا ليعبدون) * (الذاريات: 56) وجوابه أن الفعل في نفسه ليس بابتلاء إلا أنه