أطنب في تعديد أفعالهم المنكرة وأقوالهم القبيحة امتلأ قلبه غيظا وغضبا عليهم فختم كلامه بأن دعا عليهم.
السؤال الثاني: إنما بعث ليصرفهم عن الضلال فكيف يليق به أن يدعو الله في أن يزيد في ضلالهم؟ الجواب: من وجهين: الأول: لعله ليس المراد الضلال في أمر الدين، بل الضلال في أمر دنياهم، وفي ترويج مكرهم وحيلهم الثاني: الضلال العذاب لقوله: * (إن المجرمين في ضلال وسعر) * (القمر: 47).
قوله تعالى * (مما خطيئاتهم أغرقوا فأدخلوا نارا فلم يجدوا لهم من دون الله أنصارا) *.
ثم إنه تعالى لما حكى كلام نوح عليه السلام قال بعده: * (مما خطاياهم أغرقوا فأدخلوا نارا) * وفيه مسائل:
المسألة الأولى: (ما) صلة كقوله: * (فبما نقضهم) * (النساء: 155) * (فبما رحمة) * (النساء: 159) والمعنى من خطاياهم أي من أجلها وبسببها، وقرأ ابن مسعود: * (من خطيئاتهم ما أغرقوا) * فأخر كلمة ما، وعلى هذه القراءة لا تكون ما صلة زائدة لأن ما مع ما بعده في تقرير المصدر.
واعلم أن تقديم قوله: * (مما خطاياهم) * لبيان أنه لم يكن إغراقهم بالطوفان (فإدخالهم النار) إلا من أجل خطيئاتهم، فمن قال من المنجمين: إن ذلك إنما كان بسبب أنه انقضى في ذلك الوقت نصف الدور الأعظم، وما يجري مجرى هذه الكلمات كان مكذبا لصريح هذه الآية فيجب تكفيره.
المسألة الثانية: قرىء * (خطيئاتهم) * بالهمزة وخطياتهم بقلبها ياء وإدغامها و * (خطاياهم) * و * (خطيئتهم) * بالتوحيد على إرادة الجنس، ويجوز أن يراد به الكفر.
واعلم أن الخطايا والخطيئات كلاهما جمع خطيئة، إلا أن الأول جمع تكسير والثاني جمع سلامة، وقد تقدم الكلام فيها في (البقرة: 58) عند قوله: * (نغفر لكم خطاياكم) * وفي (الأعراف: 161) عند قوله: * (خطيئاتكم) *.
المسألة الثالثة: تمسك أصحابنا في إثبات عذاب القبر بقوله: * (أغرقوا فأدخلوا نارا) * وذلك من وجهين الأول: أن الفاء في قوله: * (فأدخلوا نارا) * تدل على أنه حصلت تلك الحالة عقيب الإغراق فلا يمكن حملها على عذاب الآخرة، وإلا بطلت دلالة هذه الفاء الثاني: أنه قال: * (فأدخلوا) * على سبيل الإخبار عن الماضي. وهذا إنما يصدق لو وقع ذلك، قال مقاتل والكلبي: معناه أنهم سيدخلون في الآخرة نارا ثم عبر عن المستقبل بلفظ الماضي لصحة كونه وصدق الوعد به كقوله: * (ونادى أصحاب النار) * (الأعراف: 50) * (ونادى أصحاب الجنة) * (الأعراف: 44) واعلم أن الذي قالوه ترك للظاهر من غير دليل.
فإن قيل: إنما تركنا هذا الظاهر لدليل، وهو أن من مات في الماء فإنا نشاهده هناك فكيف يمكن أن يقال: إنهم في تلك الساعة أدخلوا نارا؟ والجواب: هذا الإشكال إنما جاء لاعتقاد أن الإنسان هو مجموع هذا الهيكل، وهذا خطأ لما بينا أن هذا الإنسان هو الذي كان موجودا من أول عمره، مع أنه كان صغير الجثة في أول عمره، ثم إن أجزاءه دائما في التحلل والذوبان، ومعلوم أن الباقي غير