الرحمة أغلب وأقوى، فظهر مما بينا أن السورة من أولها إلى هذا الموضع في بيان أحوال الآخرة، ثم إنه تعالى شرع بعد ذلك في أحوال الدنيا، وقدم شرح أحوال المطيعين على شرح أحوال المتمردين. أما المطيعون فهم الرسول وأمته، والرسول هو الرأس والرئيس، فلهذا خص الرسول بالخطاب.
واعلم أن الخطاب إما النهي وإما الأمر، ثم إنه تعالى قبل الخوض فيما يتعلق بالرسول من النهي والأمر، قدم مقدمة في تقوية قلب الرسول صلى الله عليه وسلم، وإزالة الغم والوحشة عن خاطره، وإنما فعل ذلك، لأن الاشتغال بالطاعة والقيام بعهدة التكليف لا يتم إلا مع فراغ القلب ثم بعد هذه المقدمة. ذكر نهيه عن بعض الأشياء، ثم بعد الفراغ عن النهي، ذكر أمره ببعض الأشياء، وإنما قدم النهي على الأمر، لأن دفع الضرر أهم من جلب النفع، وإزالة مالا ينبغي مقدم على تحصيل ما ينبغي، ثم إنه تعالى ذكر بعد ذلك أحوال المتمردين والكفار على ما سيأتي تفصيل بيانه، ومن تأمل فيما ذكرناه علم أن هذه السورة، وقعت على أحسن وجوه الترتيب والنظام، فالحمد لله الذي نور عقل هذا المسكين الضعيف بهذه الأنوار، وله الشكر عليه أبد الآباد. ولنرجع إلى التفسير، فنقول: أما تلك المقدمة، فهي: قوله تعالى: * (إنا نحن نزلنا عليك القرآن تنزيلا) * واعلم أن المقصود من هذه الآية تثبيت الرسول وشرح صدره فيما نسبوه إليه من كهانة وسحر، فذكر الله تعالى أن ذلك وحي من الله، فلا جرم بالغ وكرر الضمير بعد إيقاعه اسما، لأن تأكيدا على تأكيد أبلغ، كأنه تعالى يقول: إن كان هؤلاء الكفار يقولون: إن ذلك كهانة، فأنا الله الملك الحق أقول على سبيل التأكيد والمبالغة إن ذلك وحي حق وتنزيل صدق من عندي، وهذا فيه فائدتان: إحداهما: إزالة الوحشة المتقدمة الحاصلة بسبب طعن أولئك الكفار، فإن بعض الجهال وإن طعنوا فيه إلا أن جبار السماوات عظمه وصدقه. والثانية: تقويته على تحمل التكليف المستقبل، وذلك لأن الكفار كانوا يبالغون في إيذائه، وهو كان يريد مقاتلتهم فلما أمره الله تعالى بالصبر على ذلك الإيذاء وترك المقاتلة، وكان ذلك شاقا عليه، فقال له: * (إنا نزلنا عليك القرآن تنزيلا) * فكأنه قال له: إني ما نزلت عليك هذا القرآن مفرقا منجما إلا لحكمة بالغة تقتضي تخصيص كل شيء بوقت معين، ولقد اقتضت تلك الحكمة تأخير الإذن في القتال، فاصبر لحكم ربك الصادر عن الحكمة المحضة المبرأ عن العيب والعبث والباطل.
ثم إنه تعالى لما قدم هذه المقدمة ذكر النهي فقال تعالى:
* (فاصبر لحكم ربك ولا تطع منهم ءاثما أو كفورا) *.
فإما أن يكون المعنى: * (فاصبر لحكم ربك) * في تأخير الإذن في القتال ونظيره * (فاصبروا حتى