كما تقول: هذا كلام رزين وهذا قول له وزن إذا كنت تستجيده وتعلم أنه وقع موقع الحكمة والبيان وسابعها: قال أبو علي الفارسي: إنه ثقيل على المنافقين، من حيث إنه يهتك أسرارهم، ومن حيث إنه يبطل أديانهم وأقوالهم وثامنها: أن الثقيل من شأنه أن يبقى في مكانه ولا يزول، فجعل الثقيل كناية عن بقاء القرآن على وجه الدهر كما قال: * (إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون) * (الحجر: 9)، وتاسعها: أنه ثقيل بمعنى أن العقل الواحد لا يفي بإدراك فوائده ومعانيه بالكلية، فالمتكلمون غاصوا في بحار معقولاته، والفقهاء أقبلوا على البحث عن أحكامه، وكذا أهل اللغة والنحو وأرباب المعاني، ثم لا يزال كل متأخر يفوز منه فوائد ما وصل إليها المتقدمون، فعلمنا أن الإنسان الواحد لا يقوى على الاستقلال بحمله، فصار كالحمل الثقيل الذي يعجز الخلق عن حمله، وعاشرها: أنه ثقيل لكونه مشتملا على المحكم والمتشابه، والناسخ والمنسوخ، والفرق بين هذه الأقسام مما لا يقدر عليه إلا العلماء الراسخون، المحيطون بجميع العلوم العقلية والحكمية، فلما كان كذلك لا جرم كانت الإحاطة به ثقيلة على أكثر الخلق.
* (إن ناشئة اليل هى أشد وطأ وأقوم قيلا) *.
قوله تعالى: * (إن ناشئة الليل) * يقال: نشأت تنشأ نشأ فهي ناشئة، والإنشاء الإحداث، فكل ما حدث (فهو ناشئ) فإنه يقال للذكر ناشئ وللمؤنث ناشئة، إذا عرفت هذا فنقول في الناشئة قولان: أحدهما: أنها عبارة عن ساعات الليل والثاني: أنها عبارة عن الأمور التي تحدث في ساعات الليل، أما القول الأول، فقال أبو عبيدة: ناشئة الليل ساعاته وأجزاؤه المتتالية المتعاقبة فإنها تحدث واحدة بعد أخرى، فهي ناشئة بعد ناشئة، ثم القائلون بهذا القول اختلفوا، فمنهم من قال الليل كله ناشئة، روى ابن أبي مليكة، قال سألت ابن عباس وابن الزبير عن ناشئة الليل، فقال الليل كله ناشئة.
وقال زين العابدين رضي الله عنه: ناشئة الليل ما بين المغرب إلى العشاء، وهو قول سعيد بن جبير والضحاك والكسائي قالوا: لأن ناشئة الليل هي الساعة التي منها يبتدئ سواد الليل، القول الثاني: هو تفسير الناشئة بأمور تحدث في الليل، وذكروا على هذا القول وجوها أحدها: قالوا: ناشئة الليل هي النفس الناشئة بالليل التي تنشأ من مضجعها إلى العبادة أي تنهض وترتفع من نشأت السحابة إذا ارتفعت وثانيها: ناشئة الليل عبارة عن قيام الليل بعد النوم، قال ابن الأعرابي إذا نمت من أول الليل نومة ثم قمت فتلك النشأة، ومنه ناشئة الليل، وعندي فيه وجه ثالث: وهو أن الإنسان إذا أقبل على العبادة والذكر في الليل المظلم في البيت المظلم في موضع لا تصير حواسه مشغولة بشيء من المحسوسات البتة، فحينئذ يقبل القلب على الخواطر الروحانية والأفكار الإلهية، وأما النهار فإن الحواس تكون مشغولة بالمحسوسات فتصير النفس مشغولة بالمحسوسات، فلا تتفرغ للأحوال الروحانية، فالمراد من ناشئة الليل تلك الواردات الروحانية