من هذا الاستنباط، ولا نزاع في مثل هذا القياس، انما النزاع في أن القياس الذي يفيد الظن هل هو حجة في الشرع أم لا؟ والجواب:
أما في السؤال الأول: فمدفوع لأنه لو كان المراد بالذين يستنبطونه المنافقين لكان الأولى أن يقال: ولو ردوه إلى الرسول وإلى أولي الأمر منهم لعلموه، لأن عطف المظهر على المضمر، وهو قوله: * (ولو ردوه) * قبيح مستكره.
وأما السؤال الثاني: فمدفوع لوجهين: الأول: أن قوله: * (وإذا جاءهم أمر من الامن أو الخوف) * النساء: 83) عام في كل ما يتعلق بالحروب وفيما يتعلق بسائر الوقائع الشرعية، لأن الامن والخوف حاصل في كل ما يتعلق بباب التكليف، فثبت انه ليس في الآية ما يوجب تخصيصها بأمر الحروب. الثاني: هب أن الامر كما ذكرتم لكن تعرف أحكام الحروب بالقياس الشرعي، ولما ثبت جوازه وجب أن يجوز التمسك بالقياس الشرعي في سائر الوقائع لأنه لا قائل بالفرق، ألا ترى أن من قال: القياس حجة في باب البيع لا في باب النكاح لم يلتفت إليه، فكذا ههنا.
وأما السؤال الثالث: وهو حمل الاستنباط على النصوص الخفية أو على تركيبات النصوص فجوابه: أن كل ذلك لا يخرج عن كونه منصوصا، والتمسك بالنص لا يسمى استنباطا. قوله: لم لا يجوز حمله على التمسك بالبراءة الأصلية؟ قلنا ليس هذا استنباطا بل هو إبقاء لما كان على ما كان، ومثل هذا لا يسمى استنباطا البتة.
وأما السؤال الرابع: وهو قوله ان هذا الاستنباط إنما يجوز عند حصول العلم، والقياس الشرعي لا يفيد العلم.
قلنا: الجواب عنه من وجهين: الأول: ان القياس الشرعي عندنا يفيد العلم، وذلك لان بعد ثبوت أن القياس حجة نقطع بأنه مهما غلب على الظن أن حكم الله في الأصل معلل بكذا، ثم غلب على الظن أن ذلك المعنى قائم في الفرع، فههنا يحصل ظن أن حكم الله في الفرع مساو لحكمه في الأصل، وعند هذا الظن نقطع بأنه مكلف بأن يعمل على وفق هذا الظن، فالحاصل أن الظن واقع في طريق الحكم، وأما الحكم فمقطوع به، وهو يجري مجرى ما إذا قال الله: مهما غلب على ظنك كذا فاعلم أن في الواقعة الفلانية حكمي كذا فإذا حصل الظن قطعنا بثبوت ذلك الحكم. والثاني: وهو ان العلم قد يطلق ويراد به الظن، قال عليه الصلاة والسلام: " إذا علمت مثل الشمس فاشهد " شرط العلم في جواز الشهادة، وأجمعنا على أن عند الظن تجوز الشهادة، فثبت أن الظن قد يسمى بالعلم والله أعلم.