الصفة الثانية: الشهادة: والكلام في الشهداء قد مر في مواضع من هذا الكتاب، ولا بأس بأن نعيد البعض فنقول: لا يجوز أن تكون الشهادة مفسرة بكون الانسان مقتول الكافر، والذي يدل عليه وجوه: الأول: أن هذه الآية دالة على أن مرتبة الشهادة مرتبة عظيمة في الدين، وكون الانسان مقتول الكافر ليس فيه زيارة شرف، لأن هذا القتل قد يحصل في الفساق ومن لا منزلة له عند الله. الثاني: أن المؤمنين قد يقولون: اللهم ارزقنا الشهادة، فلو كانت الشهادة عبارة عن قتل الكافر إياه لكانوا قد طلبوا من الله ذلك القتل وانه غير جائز، لأن طلب صدور ذلك القتل من الكافر كفر، فكيف يجوز أن يطلب من الله ما هو كفر، الثالث: روي أنه صلى الله عليه وسلم قال: المبطون شهيد والغريق شهيد، فعلمنا أن الشهادة ليست عبارة عن القتل، بل نقول: الشهيد فعيل بمعنى الفاعل، وهو الذي يشهد بصحة دين الله تعالى تارة بالحجة والبيان، وأخرى بالسيف والسنان، فالشهداء هم القائمون بالقسط، وهم الذين ذكرهم الله في قوله: * (شهد الله أنه لا إله إلا هو والملائكة وأولوا العلم قائما بالقسط) * ويقال للمقتول في سبيل الله شهيد من حيث أنه بذل نفسه في نصرة دين الله، وشهادته له بأنه هو الحق وما سواه هو الباطل، وإذا كان من شهداء الله بهذا المعنى كان من شهداء الله في الآخرة، كما قال: * (وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس) * (البقرة: 143).
الصفة الثالثة: الصالحون: والصالح هو الذي يكون صالحا في اعتقاده وفي عمله، فان الجهل فساد في الاعتقاد، والمعصية فساد في العمل، وإذا عرفت تفسير الصديق والشهيد والصالح ظهر لك ما بين هذه الصفات من التفاوت، وذلك لأن كل من كان اعتقاده صوابا وكان عمله طاعة وغير معصية فهو صالح، ثم إن الصالح قد يكون بحيث يشهد لدين الله بأنه هو الحق وأن ما سواه هو الباطل، وهذه الشهادة تارة تكون بالحجة والدليل وأخرى بالسيف، وقد لا يكون الصالح موصوفا بكونه قائما بهذه الشهادة، فثبت أن كل من كان شهيدا كان صالحا، وليس كل من كان صالحا شهيدا، فالشهيد أشرف أنواع الصالح، ثم إن الشهيد قد يكون صديقا وقد لا يكون: ومعنى الصديق الذي كان أسبق إيمانا من غيره، وكان إيمانه قدوة لغيره، فثبت أن كل من كان صديقا كان شهيدا، وليس كل من كان شهيدا كان صديقا، فثبت أن أفضل الخلق هم الأنبياء عليهم السلام، وبعدهم الصديقون، وبعدهم من ليس له درجة إلا محض درجة الشهادة، وبعدهم من ليس له إلا محض درجة الصلاح. فالحاصل أن أكابر الملائكة يأخذون الدين الحق عن الله، والأنبياء يأخذون عن الملائكة، كما قال: * (ينزل الملائكة بالروح من أمره على من يشاء من عباده) * (النحل: 2) والصديقون يأخذونه عن الأنبياء. والشهداء يأخذونه عن الصديقين، لأنا بينا أن الصديق هو الذي يأخذ في المرة الأولى عن