من العراقيين، أن القاضي إذا كان عدلا في نفسه فولي القضاء من قبل إمام جائر أن أحكامه نافذة وقضاياه صحيحة وأن الصلاة خلفهم جائزة مع كونهم فساقا وظلمة. وهذا مذهب صحيح ولا دلالة فيه على أن من مذهبه تجويز إمامة الفاسق، وذلك لأن القاضي إذا كان عدلا فإنما يكون قاضيا بأن يمكنه تنفيذ الأحكام وكانت له يد وقدرة على من امتنع من قبول أحكامه حتى يجبره عليها، ولا اعتبار في ذلك بمن ولاه لأن الذي ولاه إنما هو بمنزلة سائر أعوانه، وليس شرط أعوان القاضي أن يكونوا عدولا، ألا ترى أن أهل بلد لا سلطان عليهم لو اجتمعوا على الرضا بتولية رجل عدل منهم القضاء حتى يكونوا أعوانا له على من امتنع من قبول أحكامه لكان قضاؤه نافذا وإن لم يكن له ولاية من جهة إمام ولا سلطان؟ وعلى هذا تولى شريح وقضاة التابعين القضاء من قبل بني أمية، وقد كان شريح قاضيا بالكوفة إلى أيام الحجاج، ولم يكن في العرب ولا آل مروان أظلم ولا أكفر ولا أفجر من عبد الملك، ولم يكن في عماله أكفر ولا أظلم ولا أفجر من الحجاج. وكان عبد الملك أول من قطع ألسنة الناس في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، صعد المنبر فقال: (إني والله ما أنا بالخليفة المستضعف - يعني عثمان - ولا بالخليفة المصانع - يعني معاوية - وإنكم تأمروننا بأشياء تنسونها منه في أنفسكم، والله لا يأمرني أحد بعد مقامي هذا بتقوى الله إلا ضربت عنقه!) وكانوا يأخذون الأرزاق من بيوت أموالهم. وقد كان المختار الكذاب يبعث إلى ابن عباس ومحمد ابن الحنفية وابن عمر بأموال، فيقبلونها. وذكر محمد بن عجلان عن القعقاع قال: كتب عبد العزيز بن مروان إلى ابن عمر: (ارفع إلي حوائجك!) فكتب إليه: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إن اليد العليا خير من اليد السفلى) وأحسب أن اليد العليا يد المعطي وأن اليد السفلى يد الآخذ، وإني لست سائلك شيئا ولا راد عليك رزقا رزقنيه الله منك، والسلام.
وقد كان الحسن وسعيد بن جبير والشعبي وسائر التابعين يأخذون أرزاقهم من أيدي هؤلاء الظلمة، لا على أنهم كانوا يتولونهم ولا يرون إمامتهم، وإنما كانوا يأخذونها على أنها حقوق لهم في أيدي قوم فجرة، وكيف يكون ذلك على وجه موالاتهم وقد ضربوا وجه الحجاج بالسيف، وخرج عليه من القراء أربعة آلاف رجل هم خيار التابعين وفقهاؤهم فقاتلوه مع عبد الرحمن بن محمد بن الأشعث بالأهواز ثم بالبصرة ثم بدير الجماجم من ناحية الفرات بقرب الكوفة وهم خالعون لعبد الملك بن مروان لاعنون لهم متبرئون منهم! وكذلك كان سبيل من قبلهم مع معاوية حين تغلب على الأمر بعد قتل علي عليه السلام. وقد كان الحسن والحسين يأخذان العطاء وكذلك من كان في ذلك العصر من الصحابة، وهم غير متولين له بل متبرئون منه على السبيل التي كان عليها علي