ذكره هذا القائل عدول عن حقيقة اللفظ وظاهره بغير دلالة، لأن قوله تعالى: (ولا تؤتوا السفهاء أموالكم) [النساء: 5] يشتمل على فريقين من الناس كل واحد منهما مميز في اللفظ من الآخر، وأحد الفريقين هم المخاطبون بقوله تعالى: (ولا تؤتوا السفهاء أموالكم) [النساء: 5] والفريق الآخر السفهاء المذكورون معهم، فلما قال تعالى:
(أموالكم) [النساء: 5] وجب أن ينصرف ذلك إلى أموال المخاطبين دون السفهاء، وغير جائز أن يكون المراد السفهاء لأن السفهاء لم يتوجه الخطاب إليهم بشئ وإنما توجه إلى العقلاء المخاطبين، وليس ذلك كقوله تعالى: (فاقتلوا أنفسكم) [البقرة: 54] وقوله تعالى: (ولا تقتلوا أنفسكم) [النساء: 29] لأن القاتلين والمقتولين قد انتظمهم خطاب واحد لم يتميز أحد الفريقين من الآخر في حكم المخاطبة، فلذلك جاز أن يكون المراد: فليقتل بعضكم بعضا.
وقد قيل إن أصل السفه الخفة، ومن ذلك قول الشاعر:
مشين كما اهتزت رماح تسفهت * أعاليها مر الرياح النواسم يعني: استخفتها الرياح. وقال آخر:
نخاف أن تسفه أحلامنا * فنحمل الدهر مع الحامل أي: تخف أحلامنا.
ويسمى الجاهل سفيها. لأنه خفيف العقل ناقصه، فمعنى الجهل شامل لجميع من أطلق اسم السفيه. والسفيه في أمر الدين هو الجاهل فيه، والسفيه في المال هو الجاهل لحفظه وتدبيره، والنساء والصبيان أطلق عليهم اسم السفهاء لجهلهم ونقصان تمييزهم، والسفيه في رأيه الجاهل فيه والبذي اللسان يسمى سفيها لأنه لا يكاد يتفق إلا في جهال الناس ومن كان خفيف العقل منهم. وإذا كان اسم السفيه ينتظم هذه الوجوه رجعنا إلى مقتضى لفظ الآية في قوله تعالى: (فإن كان الذي عليه الحق سفيها) فاحتمل أن يريد به الجهل بإملاء الشرط وإن كان عاقلا مميزا غير مبذر ولا مفسد، وأجاز لولي الحق أن يمليه حتى يقر به السفيه الذي عليه الحق، ويكون ذلك أولى بمعنى الآية، لأن الذي عليه الحق هو المذكور في أول الآية بالمداينة، ولو كان محجورا عليه لما جازت مداينته. ومن جهة أخرى أن ولي المحجور عليه لا يجوز إقراره عليه بالدين، وإنما يجوز على قول من يرى الحجر أن يتصرف عليه القاضي ببيع أو شرى، فأما وليه فلا نعلم أحدا يجيز تصرف أوليائه عليه ولا إقرارهم، وفي ذلك دليل على أنه لم يرد ولي السفيه وإنما أراد ولي الدين. وقد روي ذلك عن الربيع بن أنس وقاله الفراء أيضا.