وهذا البيت يحتمل من المعنى ما احتمله الأول، ويحتمل أيضا أنه أراد بالمسحر أنه ذو سحر.
والسحر الرئة وما يتعلق بالحلقوم، وهذا يرجع إلى معنى الخفاء، ومنه قول عائشة: (توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم بين سحري ونحري). وقوله تعالى (إنما أنت من المسحرين) [الشعراء: 153، 185] يعني من المخلوق الذي يطعم ويسقى، ويدل عليه قوله تعالى (وما أنت إلا بشر مثلنا) [الشعراء: 154]، وكقوله تعالى: (ما لهذا الرسول يأكل الطعام ويمشي في الأسواق) [الفرقان: 7]. ويحتمل أنه ذو سحر مثلنا. وإنما يذكر السحر في مثل هذه المواضع لضعف هذه الأجساد ولطافتها ورقتها وبها مع ذلك قوام الانسان، فمن كان بهذه الصفة فهو ضعيف محتاج، وهذا هو معنى السحر في اللغة، ثم نقل هذا الاسم إلى كل أمر خفي سببه وتخيل على غير حقيقته ويجري مجرى التمويه والخداع، ومتى أطلق ولم يقيد أفاد ذم فاعله. وقد أجري مقيدا فيما يمتدح ويحمد روي (أن من البيان لسحرا).
حدثنا عبد الباقي قال: حدثنا إبراهيم الحراني قال: حدثنا سليمان بن حرب قال:
حدثنا حماد بن زيد عن محمد بن الزبير قال: قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم الزبرقان بن بدر وعمرو بن الأهتم وقيس بن عاصم، فقال لعمرو، (خبرني عن الزبرقان!) فقال: مطاع في ناديه، شديد العارضة، مانع لما وراء ظهره. فقال الزبرقان: هو والله يعلم أني أفضل منه! فقال عمرو: إنه زمر المروءة ضيق العطن أحمق الأب لئيم الخال يا رسول الله!
صدقت فيهما، أرضاني فقلت أحسن ما علمت، وأسخطني فقلت أسوأ ما علمت. فقال عليه السلام: (إن من البيان لسحرا).
وحدثنا إبراهيم الحراني قال: حدثنا مصعب بن عبد الله قال: حدثنا مالك بن أنس عن زيد بن أسلم عن ابن عمر قال: قدم رجلان فخطب أحدهما فعجب الناس لذلك، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن من البيان لسحرا)، قال: وحدثنا محمد بن بكر قال: حدثنا أبو داود قال: حدثنا محمد بن يحيى بن فارس قال: حدثنا سعيد بن محمد قال: حدثنا أبو تميلة قال: حدثنا أبو جعفر النحوي عبد الله بن ثابت قال: حدثني صخر بن عبد الله بن بريدة عن أبيه عن جده قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (إن من البيان لسحرا، وإن من العلم جهلا، وإن من الشعر حكما، وإن من القول عيالا) قال صعصعة بن صوحان:
صدق نبي الله. أما قوله: (إن من البيان لسحرا). فالرجل يكون عليه الحق وهو ألحن بالحجج من صاحب الحق فيسحر القوم ببيانه فيذهب بالحق. وأما قوله: (من العلم جهلا) فيتكلف العالم إلى علمه مالا يعلمه فيجهله ذلك. وأما قوله: (إن من الشعر