فعل الصوم في السفر فرضا، فلم يكن جائزا لهم ترك الفرض لأجل الفضل. وأما حديث أبي سلمة بن عبد الرحمن عن أبيه، فإن أبا سلمة ليس له سماع من أبيه، فكيف يجوز ترك الأخبار المتواترة في جواز الصوم بحديث مقطوع لا يثبت عند كثير من الناس؟ ومع ذلك فجائز أن يكون كلاما خرج على سبب وهو حال لزوم القتال، مع العلم بالعجز عنه مع فعل الصوم، فكان حكمه مقصورا على تلك الحال، لمخالفة أمر النبي صلى الله عليه وسلم ولما يؤدي إليه من ترك الجهاد. وأما قوله: (إن الله وضع عن المسافر شطر الصلاة والصوم وعن الحامل والمرضع) فإنما يدل على أن الفرض لم يتعين عليه لحضور الشهر، وأن له أن يفطر فيه، ولا دلالة فيه على نفي الجواز إذا صامه كما لم ينف جواز صوم الحامل والمرضع.
وقال أصحابنا: (الصوم في السفر أفضل من الإفطار). وقال مالك والثوري:
(الصوم في السفر أحب إلينا لمن قوي عليه). وقال الشافعي: (إن صام في السفر أجزأه). ومما يدل على أن الصوم فيه أفضل قوله تعالى: (كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون أياما معدودات فمن كان منكم مريضا أو على سفر فعدة من أيام أخر) إلى قوله: (وأن تصوموا خير لكم) وذلك عائد إلى جميع المذكور في الآية إذ كان الكلام معطوفا بعضه على بعض فلا يخص شئ منه إلا بدلالة، فاقتضى ذلك أن يكون صوم المسافر خيرا له من الإفطار.
فإن قيل: هو عائد على ما يليه دون ما تقدمه، وهو قوله: (وعلى الذين يطيقونه فدية طعام مسكين). قيل له: لما كان قوله (كتب عليكم الصيام) خطابا للجميع من المسافرين والمقيمين، فواجب أن يكون قوله: (وأن تصوموا خير لكم) خطابا لجميع من شمله الخطاب في ابتداء الآية، وغير جائز الاقتصار به على البعض. وأيضا فقد ثبت جوازه عن الفرض بما قدمناه، وما كان كذلك فهو من الخيرات، وقال الله: (فاستبقوا الخيرات) [البقرة: 148] ومدح قوما فقال: (إنهم كانوا يسارعون في الخيرات) [الأنبياء: 90] المسارعة إلى فعل الخيرات وتقديمها أفضل من تأخيرها، وأيضا فعل الفروض في أوقاتها أفضل من تأخيرها إلى غيرها. وأيضا قال النبي صلى الله عليه وسلم: (من أراد أن يحج فليعجل) به فأمر النبي صلى الله عليه وسلم بتعجيل الحج، فكذلك ينبغي أن يكون سائر الفرائض المفعولة في وقتها أفضل من تأخيرها عن وقتها، وحدثنا محمد بن بكر قال: حدثنا أبو داود قال: حدثنا عقبة بن مكرم قال: حدثنا أبو قتيبة قال: حدثنا عبد الصمد بن حبيب بن عبد الله الأزدي قال: حدثني حبيب بن عبد الله قال: سمعت سنان بن سلمة بن المحبق الهذلي يحدث عن أبيه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من كانت له حمولة يأوي إلى