وصول الذباب إلى جوفه معلوما على العادة في فتح الفم بالكلام، وما كان مبنيا على العادة مما يشق الامتناع عنه، فقد خفف الله عن العباد فيه، قال الله: (وما جعل عليكم في الدين من حرج) [الحج: 87].
وأما الجنابة فإنها غير مانعة من صحة الصوم، لقوله: (فالآن باشروهن وابتغوا ما كتب الله لكم وكلوا واشربوا حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر ثم أتموا الصيام إلى الليل) [البقرة: 187] فأطلق الجماع من أول الليل إلى آخره، ومعلوم أن من جامع في آخر الليل فصادف فراغه من الجماع طلوع الفجر أنه يصبح جنبا، وقد حكم الله بصحة صيامه بقوله: (ثم أتموا الصيام إلى الليل) [البقرة: 187].
وروت عائشة وأم سلمة: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يصبح جنبا من غير احتلام ثم يصوم يومه ذلك). وروى أبو سعيد عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (ثلاث لا يفطرن الصائم: القئ، والحجامة، والاحتلام) وهو يوجب الجنابة، وحكم النبي عليه السلام مع ذلك بصحة صومه، فدل على أن الجنابة لا تنافي صحة الصوم. وقد روى أبو هريرة خبرا عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (من أصبح جنبا فلا يصومن يومه ذلك) إلا أنه لما أخبر برواية عائشة وأم سلمة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: لا علم لي بهذا أخبرني به الفضل بن العباس. وهذا مما يوهن خبره، لأنه قال بديا: ما أنا قلت ورب الكعبة (من أصبح جنبا فقد أفطر) محمد قال ذلك ورب الكعبة! وأفتى السائل عن ذلك بالإفطار، فلما أخبر برواية عائشة وأم سلمة تبرأ من عهدته وقال: لا علم لي بهذا إنما أخبرني به الفضل. وقد روي عن أبي هريرة الرجوع عن فتياه بذلك، حدثنا عبد الباقي قال: حدثنا إسماعيل بن الفضل قال: حدثنا ابن شبابة قال: حدثنا عمرو بن الهيثم قال: حدثنا هشام عن قتادة عن سعيد بن المسيب: أن أبا هريرة رجع عن الذي كان يفتي من أصبح جنبا فلا يصوم. وعلى أنه لو ثبت خبر أبي هريرة احتمل أن لا يكون معارضا لرواية عائشة وأم سلمة، بأن يريد: (من أصبح على موجب الجنابة أن يصبح مخالطا لامرأته) ومتى أمكننا تصحيح الخبرين واستعمالهما معا استعملناهما على ما أمكن من غير تعارض.
فإن قيل: جائز أن يكون رواية عائشة وأم سلمة مستعملة فيما وردت بأن يكون النبي صلى الله عليه وسلم مخصوصا بذلك دون أمته، لأنهما أضافتا ذلك إلى فعله، وخبر أبي هريرة مستعمل في سائر الناس. قيل له: قد عقل أبو هريرة من روايته مساواة النبي صلى الله عليه وسلم لغيره في هذا الحكم، لأنه قال حين سمع رواية عائشة وأم سلمة: (لا علم لي بهذا وإنما أخبرني به الفضل بن العباس) ولم يقل إن رواية هاتين المرأتين غير معارضة لروايتي، إذ كانت روايتهما مقصورة على حال النبي صلى الله عليه وسلم وروايتي إنما هي في غيره من الناس، فهذا يبطل