قال: حدثنا القعنبي قال: حدثنا سليمان يعني ابن المغيرة - عن ثابت قال: قال أنس:
(ما كنا ندع الحجامة للصائم إلا كراهية الجهد).
فإن قال قائل: قد روى مكحول عن ثوبان عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أفطر الحاجم والمحجوم) وروى أبو قلابة عن أبي الأشعث عن شداد بن أوس: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أتى على رجل بالبقيع وهو يحتجم وهو آخذ بيدي لثماني عشرة خلت من رمضان فقال:
(أفطر الحاجم والمحجوم) قيل له: قد اختلف في صحة هذا الخبر، وهو غير صحيح على مذهب أهل النقل، لأن بعضهم رواه عن أبي قلابة عن أبي أسماء عن ثوبان، وبعضهم رواه عن أبي قلابة عن شداد بن أوس، ومثل هذا الاضطراب في السند يوهنه فأما حديث مكحول فإن أصله عن شيخ من الحي مجهول عن ثوبان، وعلى أنه ليس في قوله (أفطر الحاجم والمحجوم) إذا أشار به إلى عين دلالة على وقوع الإفطار بالحجامة، لأن ذكر الحجامة في مثله تعريف لهما، كقولك: أفطر القائم والقاعد، وأفطر زيد، إذا أشرت به إلى عين، فلا دلالة فيه على أن القيام يفطر وعلى أن كونه زيدا يفطره. كذلك قوله: (أفطر الحاجم والمحجوم) لما أشار به إلى رجلين بأعينهما فلا دلالة فيه على وقوع الفطر بالحجامة، وجائز أن يكون شاهدهما على حال توجب الإفطار من أكل أو غيره فأخبر بالإفطار من غير ذكر علته، وجائز أن يكون شاهدهما على غيبة منهما للناس فقال إنهما أفطرا، كما روى يزيد بن أبان عن أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (الغيبة تفطر الصائم) وليس المعنى فيه عند الفقهاء الخروج منه، وإنما المراد منه إبطال ثوابه، فاحتمل أن يكون ذكر إفطار الحاجم والمحجوم لهذا المعنى، وعلى أن الأخبار التي روينا فيها ذكر تاريخ الرخصة بعد النهي. وجائز أيضا أن يكون النهي عن الحجامة كان لما يخاف من الضعف، كما نهى عن الصوم في السفر حين رأى رجلا قد ظلل عليه.
وأما وجه قولهم فيمن بلع شيئا بين أسنانه لم يفطره، فهو أن ذلك بمنزلة أجزاء الماء الباقية في فمه بعد غسل فمه للمضمضة، ومعلوم وصولها إلى جوفه ولا حكم لها، كذلك الأجزاء الباقية في فيه هي بمنزلة ما وصفنا ألا ترى أن من أكل بالليل سويقا أنه لا يخلو إذا أصبح من بقاء شئ من أجزائه بين أسنانه ولم يأمره أحد بتقصي اخراجها بالأخلة والمضمضة؟ فدل ذلك على أن تلك الأجزاء لا حكم لها.
وأما الذباب الواصل إلى جوفه من غير إرادته، فإنما لم يفطره من قبل أن ذلك في العادة غير متحفظ منه، ألا ترى أنه لا يؤمر بإطباق الفم وترك الكلام خوفا من وصوله إلى جوفه؟ فأشبه الغبار والدخان يدخل إلى حلقه فلا يفطره. وليس هو بمنزلة من أوجر ماء وهو صائم مكرها فيفطر، من قبل أنه ليس للعادة في هذا تأثير، وإنما بينا حكم