ويدل أيضا على أنها ليست من أوائل السور ما حدثنا محمد بن جعفر بن أبان، قال: حدثنا محمد بن أيوب، قال: حدثنا مسدد، قال: حدثني يحيى بن سعيد عن شعبة عن قتادة عن عباس الجشمي عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال (سورة في القرآن ثلاثون آية شفعت لصاحبها حتى غفر له: تبارك الذي بيده الملك) واتفق القراء وغيرهم أنها ثلاثون آية سوى بسم الله الرحمن الرحيم. فلو كانت منها كانت إحدى وثلاثين آية، وذلك خلاف قول النبي صلى الله عليه وسلم ويدل عليه أيضا اتفاق جميع قراء الأمصار وفقهائهم على أن سورة الكوثر ثلاث آيات، وسورة الإخلاص أربع آيات، فلو كانت منها لكانت أكثر مما عدوا.
فإن قال قائل: إنما عدوا سواها لأنه لا إشكال فيها عندهم، قيل له: فكان لا يجوز لهم أن يقولوا: (سورة الإخلاص أربع آيات وسورة الكوثر ثلاث آيات) والثلاث والأربع إنما هي بعض السورة، ولو كان كذلك لوجب أن يقولوا في الفاتحة أنها ست آيات.
قال أبو بكر رحمه الله: وقد روى عبد الحميد ابن جعفر عن نوح بن أبي جلال عن سعيد المقبري عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يقول: (الحمد لله رب العالمين سبع آيات إحداهن بسم الله الرحمن الرحيم) وشك بعضهم في ذكر أبي هريرة في الإسناد. وذكر أبو بكر الحنفي عن عبد الحميد بن جعفر عن نوح بن أبي جلال عن سعيد بن أبي سعيد عن أبي هريرة عن النبي عليه السلام، قال: (إذا قرأتم الحمد لله رب العالمين، فاقرءوا بسم الله الرحمن الرحيم، فإنها إحدى آياتها).
قال أبو بكر: ثم لقيت نوحا فحدثني به عن سعيد المقبري عن أبي هريرة مثله، ولم يرفعه. ومثل هذا الاختلاف في السند والرفع يدل على أنه غير مضبوط في الأصل، فلم يثبت به توقيف عن النبي عليه السلام، ومع ذلك فجائز أن يكون قوله: (فإنها إحدى آياتها) من قول أبي هريرة، لأن الراوي قد يدرج كلامه في الحديث من غير فصل بينهما لعلم السامع الذي حضره بمعناه. وقد وجد مثل ذلك كثيرا في الأخبار، فغير جائز فيما كان هذا وصفه أن يعزى إلى النبي صلى الله عليه وسلم بالاحتمال، وجائز أن يكون أبو هريرة قال ذلك من جهة أنه سمع النبي عليه السلام يجهر بها، وظنها من السورة، لأن أبا هريرة قد روى الجهر عن النبي صلى الله عليه وسلم. وأيضا لو ثبت هذا الحديث عاريا من الاضطراب في السند والاختلاف في الرفع وزوال الاحتمال في كونه من قول أبي هريرة لما جاز لنا إثباتها من السورة، إذ كان طريق إثباتها نقل الأمة على ما بين آنفا.