يدعوكم في أخراكم، وحزنكم على ما فاتكم من عدوكم، وما أصابكم في أنفسهم - ذو خبرة وعلم، وهو محص ذلك كله عليكم حتى يجازيكم به المحسن منكم بإحسانه، والمسئ بإساءته، أو يعفو عنه. القول في تأويل قوله تعالى:
* (ثم أنزل عليكم من بعد الغم أمنة نعاسا يغشى طائفة منكم وطائفة قد أهمتهم أنفسهم يظنون بالله غير الحق ظن الجاهلية يقولون هل لنا من الامر من شئ قل إن الامر كله لله يخفون في أنفسهم ما لا يبدون لك يقولون لو كان لنا من الامر شئ ما قتلنا هاهنا قل لو كنتم في بيوتكم لبرز الذين كتب عليهم القتل إلى مضاجعهم وليبتلي الله ما في صدوركم وليمحص ما في قلوبكم والله عليم بذات الصدور) * يعني بذلك جل ثناؤه: ثم أنزل الله أيها المؤمنون من بعد الغم الذي أثابكم ربكم بعد غم تقدمه قبله أمنة، وهي الأمان على أهل الاخلاص منكم واليقين، دون أهل النفاق والشك. ثم بين جل ثناؤه عن الآمنة التي أنزلها عليهم ما هي؟ فقال: نعاسا، بنصب النعاس على الابدال من الآمنة.
ثم اختلفت القراء في قراءة قوله: * (يغشى) * فقرأ ذلك عامة قراء الحجاز والمدينة والبصرة وبعض الكوفيين بالتذكير بالياء: * (يغشى) *. وقرأ جماعة من قراء الكوفيين بالتأنيث: * (تغشى) * بالتاء. وذهب الذين قرؤوا ذلك بالتذكير إلى أن النعاس هو الذي يغشى الطائفة من المؤمنين دون الآمنة، فذكره بتذكير النعاس. وذهب الذين قرؤوا ذلك بالتأنيث إلى أن الآمنة هي التي تغشاهم، فأنثوه لتأنيث الآمنة.
والصواب من القول في ذلك عندي أنهما قراءتان معروفتان مستفيضتان في قراء الأمصار غير مختلفتين في معنى ولا غيره، لان الآمنة في هذا الموضع هي النعاس، والنعاس: هو الآمنة. وسواء ذلك، وبأيتهما قرأ القارئ فهو مصيب الحق في قراءته، وكذلك جميع ما في القرآن من نظائره من نحو قوله: * (إن شجرة الزقوم طعام الأثيم كالمهل تغلي في البطون) * و * (ألم يك نطفة من مني تمنى) * * (وهزي إليك بجذع النخلة تساقط) *.