وأن منه ما لا يعلم تأويله إلا الله الواحد القهار، وذلك ما فيه من الخبر عن آجال حادثة، أوقات آتية، كوقت قيام الساعة، والنفخ في الصور، ونزول عيسى ابن مريم، وما أشبه ذلك، فإن تلك أوقات لا يعلم أحد حدودها، ولا يعرف أحد من تأويلها إلا الخبر بأشراطها، لاستئثار الله بعلم ذلك على خلقه.
وكذلك أنزل ربنا في محكم كتابه، فقال: (يسألونك عن الساعة أيان مرساها قل إنما علمها عند ربي لا يجليها لوقتها إلا هو ثقلت في السماوات والأرض لا تأتيكم إلا بغتة يسألونك كأنك حفي عنها قل إنما علمها عند الله ولكن أكثر الناس لا يعلمون) (1).
وكان نبينا محمد (صلى الله عليه وسلم) إذا ذكر شيئا من ذلك لم يدل عليه إلا بأشراطه دون تحديده بوقت، كالذي روي عنه (صلى الله عليه وسلم) أنه قال لأصحابه إذ ذكر الدجال: " إن يخرج وأنا فيكم فأنا حجيجه، وإن يخرج بعدي فالله خليفتي عليكم " (2).
وأما أشبه ذلك من الاخبار التي يطول باستيعابها الكتاب، الدالة على أنه (صلى الله عليه وسلم) لم يكن عنده علم أوقات شئ منه، بمقادير السنين والأيام، وأن الله جل ثناؤه إنما كان عرفه مجيئه بأشراطه ووقته بأدلته.
وأن منه ما يعلم تأويله كل ذي علم باللسان الذي نزل به القرآن، وذلك إقامة إعرابه، ومعرفة المسميات بأسمائها اللازمة غير المشترك فيها، والموصوفات بصفاتها الخاصة دون ما سواها، فإن ذلك لا يجهله أحد منهم. وذلك كسامع منهم لو سمع تاليا يتلو: " وإذا قيل لهم لا تفسدوا في الأرض قالوا إنما نحن مصلحون ألا إنهم هم المفسدون ولكن لا يشعرون) (3) لم يجهل أن معنى الافساد هو ما ينبغي تركه مما هو مضرة، وأن الاصلاح هو ما ينبغي فعله مما منفعة، وإن جهل المعاني التي جعلها الله إفسادا والمعاني التي جعلها الله إصلاحا. فالذي يعلمه ذو اللسان الذي بلسانه نزل القرآن من تأويل القرآن، هو ما وصفت من معرفة أعيان المسميات بأسمائها اللازمة غير المشترك فيها، والموصوفات بصفاتها الخاصة دون الواجب من أحكامها وصفاته وهيئاتها التي خص الله بعلمها