ومعنى واحد كان ذلك منسوبا إلى كل جنس من تلك الأجناس لا يستحق جنس منها أن يكون به أولى من سائر الأجناس غيره. كما لو أن أرضا بين سهل وجبل لها هواء السهل وهواء الجبل أو بين بر وبحر لها هواء البر وهواء البحر لم يمتنع ذو عقل صحيح أن يصفها بأنها سهلية جبلية أو بأنها برية بحرية إذ لم تكن نسبتها إلى إحدى صفتيها نافية حقها من النسبة إلى الأخرى.
ولو أفرد لها مفرد إحدى صفتيها ولم يسلبها صفتها الأخرى كان صادقا محقا، وكذلك القول في الأحرف التي تقدم ذكرنا لها أول الباب. وهذا المعنى الذي قلنا في ذلك هو معنى قول من قال: في القرآن من كل لسان عندنا. بمعنى - والله أعلم - أن فيه من كل لسان اتفق فيه لفظ العرب ولفظ غيرها من الأمم التي تنطق به نظير ما وصفنا من القول فيما مضى، وذلك أنه غير جائز أن يتوهم على ذي فطرة صحيحة مقر بكتاب الله، ممن قد قرأ القرآن وعرف حدود الله أن يعتقد أن بعض القرآن فارسي لا عربي وبعضه نبطي لا عربي وبعضه عربي لا فارسي وبعضه حبشي لا عربي بعد ما أخبر الله تعالى ذكره عنه أنه جعله قرآنا عربيا لان ذلك إن كان كذلك فليس قول القائل القرآن حبشي أو فارسي ولا نسبة من نسبه إلى بعض ألسن الأمم التي بعضه بلسانه دون العرب بأولى بالتطول من قول القائل هو عربي ولا قول القائل هو عربي بأولى بالصحة والصواب من قول ناسبه إلى بعض الأجناس التي ذكرناها إذ كان الذي بلسان غير العرب من سائر ألسن أجناس الأمم فيه نظير الذي فيه من لسان العرب.
وإذا كان ذلك كذلك إذا خطأ قول من زعم أن القائل من السلف: في القرآن من كل لسان إنما عنى بقيله ذلك أن فيه من البيان ما ليس بعربي ولا جائزة نسبته إلى لسان العرب ويقال لمن أبى ما قلنا ممن زعم أن الأحرف التي قدمنا ذكرها في أول الباب وما أشبهها إنما هي كلام أجناس الأمم سوى العرب وقعت إلى العرب فعربته: وما برهانك على صحة ما قلت في ذلك من الوجه الذي يجب التسليم له؟ فقد علمت من خالفك في ذلك فقال فيه خلاف قولك وما الفرق بينك وبين من عارضك في ذلك فقال: هذه الأحرف وما أشبهها من الأحرف غيرها أصلها عربي غير أنها وقعت إلى سائر أجناس الأمم غيرها فنطقت كل أمة منها ببعض ذلك بألسنتها من الوجه الذي يجب التسليم له؟
فلن يقول في شئ من ذلك قولا إلا ألزم في الآخر مثله.