المقوي فكما لا تنفع الأغذية المقوية، ما لم ينق البدن عن الأخلاط الفاسدة ومواد الأمراض الحادثة، كذلك لا ينفع الذكر ما لم يطهر القلب عن الأخلاق الذميمة التي هي مورد مرض الوساوس، فالذكر إنما ينفع للقلب إذا كان مطهرا عن شوائب الهوى ومنورا بأنوار الورع والتقوى، كما قال سبحانه:
" إن الذين اتقوا إذا مسهم طائف من الشيطان تذكروا فإذا هم مبصرون " (50).
وقال سبحانه:
" إن في ذلك لذكرى لمن كان له قلب " (51).
ولو كان مجرد الذكر مطردا للشيطان لكان كل أحد حاضر القلب في الصلاة، ولم يخطر بباله فيها الوساوس الباطلة والهواجس الفاسدة، إذ منتهى كل ذكر وعبادة إنما هو في الصلاة. مع أن من راقب قلبه يجد أن خطور الخواطر في صلاته أكثر من سائر الأوقات، وربما لا يتذكر ما نسيه من فضول الدنيا إلا في صلاته، بل يزدحم عندها جنود الشياطين على قلبه ويصير مضمارا لجولاتهم، ويقلبونه شمالا ويمينا بحيث لا يجد فيه إيمانا ولا يقينا، ويجاذبونه إلى الأسواق وحساب المعاملين وجواب المعاندين، ويمرون به في أودية الدنيا ومهالكها. ومع ذلك كله لا تظنن أن الذكر لا ينفع في القلوب الغافلة أصلا، فإن الأمر ليس كذلك، إذ للذكر عند أهله أربع مراتب كلها تنفع الذاكرين، إلا أن لبه وروحه والغرض الأصلي من ذلك المرتبة الأخيرة:
(الأولى) اللساني فقط.
(الثانية) اللساني والقلبي، مع عدم تمكنه من القلب، بحيث أحتاج القلب إلى مراقبته حتى يحضر مع الذكر، ولو خلي وطبعه استرسل في أودية الخواطر.
(الثالثة) القلبي الذي تمكن من القلب واستولى عليه، بحيث لم يمكن صرفه عنه بسهولة، بل أحتاج ذلك إلى سعي وتكلف، كما احتيج في الثانية