منه هي النار التي خلق منها الشيطان، فالمناسبة اقتضت تسلطه عليهما وتبعيتهما له.
ثم لما كانت النار بذاتها مقتضية للحركة، إذ لا تتصور نار مشتعلة لا تتحرك، بل لا تزال تتحرك بطبعها، فشأن كل من الشيطان والقوتين أن يتحرك ولا يسكن، إلا أن الشيطان لما خلق من النار الصرفة من دون امتزاج شئ آخر بها فهو دائم الحركة والتحريك للقوتين بالوسوسة والهيجان، والقوتان لما امتزج بغالب مادتهما - أعني النار - شئ من الطين لم تكونا بمثابة ما خلق من صرف النار في الحركة، إلا أنهما استعدتا لقبول الحركة منه، فلا يزال الشيطان ينفخ فيهما ويحركهما بالوسوسة والهيجان ويطير ويجول فيهما. ثم الشهوة لكون النارية فيها أقل فسكونها ممكن، فيحتمل أن يكف تسلط الشيطان عن الإنسان فيها، فيسكن بالكلية عن الهيجان.
وأما الواهمة فلا يمكن أن يقطع تسلطه عنها، فيمتنع قطع وسواسه عن الإنسان، إذ لو أمكن قطعه أيضا بالمرة، لصار اللعين منقادا للانسان مسخرا له، وانقياده له هو سجوده له، إذ روح السجود وحقيقته هو الانقياد والإطاعة، ووضع الجبهة حالته وعلامته، وكيف يتصور أن يسجد الملعون لأولاد آدم (ع) مع عدم سجوده لأبيهم واستكباره من أن يطمئن عن حركته ساجدا له معللا بقوله:
(خلقتني من نار وخلقته من طين " (46).
فلا يمكن أن يتواضع لهم بالكف عن الوسوسة، بل هو من المنظرين لإغوائهم إلى يوم الدين، فلا يتخلص منه أحد إلا من أصبح وهمومه هم واحد، فيكون قلبه مشتغلا بالله وحده، فلا يجد الملعون مجالا فيه، ومثله من المخلصين الداخلين في الاستثناء (47) عن سلطنة هذا اللعين، فلا تظنن أنه يخلو عنه قلب فارغ، بل هو سيال يجري من ابن آدم مجرى الدم، وسيلانه مثل الهواء في القدح، فإنك إن أردت أن تخلي القدح عن الهواء من غير أن تشغله بمثل الماء فقد طمعت في غير مطمع، بل بقدر ما يدخل فيه