الله عليه وآله وسلم خط يوما لأصحابه خطا وقال: " هذا سبيل الله "، ثم خط خطوطا عن يمينه وشماله فقال: " هذه سبل على كل سبيل منها شيطان يدعو إليه "، ثم تلا قوله سبحانه:
" وإن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله " (43).
ثم لسهولة ميل النفس إلى الباطل وعسر انقيادها للحق تكون الطرق المؤدية إلى الباطل التي هي أبواب الشيطان جلية ظاهرة، فكانت أبواب الشيطان مفتوحة أبدا، والطرق المؤدية إلى الحق التي هي باب الملائكة خفية، فكان باب الملائكة مسدودا دائما، فما أصعب بالمسكين ابن آدم أن يسد هذه الأبواب الكثيرة الظاهرة المفتوحة ويفتح بابا واحدا خفيا مسدودا.
على أن اللعين ربما يلبس بين طريقي الحق والباطل ويعرض الشر في موضع الخير، بحيث يظن أنه لمة الملك وإلهامه، لا وسوسة الشيطان وإغواؤه، فيهلك ويضل من حيث لا يعلم، كما يلقى في قلب العالم أن الناس لكثرة غفلتهم أشرفوا على الهلاك، وهم من الجهل موتى، ومن الغفلة هلكى، أما لك رحمة على عباد الله؟ أما تريد الثواب والسعادة في العقبى؟ فما بك لا تنبههم عن رقدة الغفلات بوعظك، ولا تنقذهم من الهلاك الأبدي بنصحك؟
وقد من الله عليك يقلب بصير وعلم كثير و لسان ذلق ولهجة مقبولة! فكيف تخفى نعم الله تعالى ولا تظهرها؟! فلا يزال يوسوسه بأمثال ذلك ويثبتها في لوح نفسه، إلى أن يسخره بلطائف الحيل ويشتغل بالوعظ، فيدعوه إلى التزين والتصنع والتحسن بتحسين اللفظ، والسرور بتملق الجماعة، والفرح بمدحهم إياه، والانبساط بتواضعهم لديه وانكسارهم بين يديه، ولا يزال في أثناء الوعظ يقرر في قلبه شوائب الرياء وقبول العامة، ولذة الجاه وحب الرياسة، والتعزز بالعلم والفصاحة، والنظر إلى الخلق بعين الحقارة، فيهدي الناس ويضل نفسه، ويعمر يومه ويخرب أمسه، ويخالف الله ويظن أنه في طاعته ويعصيه ويحسب أنه في عبادته، فيدخل في جملة من قال الله فيهم: