الدليل الموجب لثبوت الحكم لا يكون موجبا للبقاء، وبالانتساخ إنما ينعدم بقاء الحكم، وذلك ما كان مضافا إلى ما كان موجبا ثبوت الحكم، فانتهاء الحكم لا يمنع بقاء التلاوة من هذا الوجه.
وأما نسخ التلاوة مع بقاء الحكم فبيانه فيما قال علماؤنا: إن صوم كفارة اليمين ثلاثة أيام متتابعة، بقراءة ابن مسعود: فصيام ثلاثة أيام متتابعات. وقد كانت هذه قراءة مشهورة إلى زمن أبي حنيفة. ولكن لم يوجد فيه النقل المتواتر الذي يثبت بمثله القرآن، وابن مسعود لا يشك في عدالته وإتقانه، فلا وجه لذلك إلا أن نقول كان ذلك مما يتلى في القرآن كما حفظه ابن مسعود رضي الله عنه ثم انتسخت تلاوته في حياة رسول الله (ص)، بصرف الله القلوب عن حفظها إلا قلب ابن مسعود ليكون الحكم باقيا بنقله، فإن خبر الواحد موجب للعمل به وقراءته لا تكون دون روايته، فكان بقاء هذا الحكم بعد نسخ التلاوة بهذا الطريق. والدليل على جوازه ما بينا أن بقاء الحكم لا يكون ببقاء السبب الموجب له، فانتساخ التلاوة لا يمنع بقاء الحكم، ألا ترى أن البيع موجب للملك ثم لو قطع المشتري ملكه بالبيع من غيره أو أزاله بالاعتاق لم ينعدم ذلك البيع، لان البقاء لم يكن مضافا إليه. ثم قد بينا أن حكم تعلق جواز الصلاة بتلاوته وحرمة قراءته على الجنب والحائض مقصود، وهو مما يجوز أن يكون موقتا ينتهي بمضي مدته فيكون نسخ التلاوة بيان مدة ذلك الحكم، كما أن نسخ الحكم بيان المدة فيه، وما توهمه بعضهم فهو غلط بين، فإن بعدما اعتقدنا في المتلو أنه قرآن وأنه كلام الله تعالى لا نعتقد فيه أنه ليس بقرآن وأنه ليس بكلام الله تعالى بحال من الأحوال، ولكن بانتساخ التلاوة ينتهي حكم تعلق جواز الصلاة به، وحرمة قراءته على الجنب والحائض لضرورة أن الله تعالى رفع عنا تلاوته وحفظه وهو نظير ما يقول، فإن رسول الله (ص) بعد ما قبض نعتقد فيه أنه رسول الله وأنه خاتم الأنبياء عليهم السلام على ما كان في حال حياته وإن أخرجه الله من بيننا بانتهاء مدة حياته في الدنيا. وأيد جميع ما ذكرنا قوله تعالى: * (ولئن شئنا لنذهبن بالذي أوحينا إليك) * ثم قد بينا أنه يجوز إثبات الحكم ابتداء بوحي غير متلو فلان يجوز بقاء الحكم بعدما انتسخ حكم التلاوة من الوحي المتلو كان أولى.