وهذا بخلاف النسخ فإن الواجب اعتقاد الحقية في الحكم النازل، فأما في حياة رسول الله عليه السلام فما كان يجب اعتقاد التأبيد في ذلك الحكم، ولا إطلاق القول بأنه مؤبد، لان الوحي كان ينزل ساعة فساعة ويتبدل الحكم كالصلاة إلى بيت المقدس وتحريم شرب الخمر وما أشبه ذلك، وإنما اعتقاد التأبيد فيه وإطلاق القول به بعد رسول الله لقيام الدليل على أن شريعته لا تنسخ بعده بشريعة أخرى.
فأما قوله تعالى * (ثم إن علينا بيانه) * فنقول: بالاتفاق ليس المراد جميع ما في القرآن فإن البيان من القرآن أيضا فيؤدي هذا القول بأن لذلك البيان بيانا إلى ما لا يتناهى، وإنما المراد بعض ما في القرآن وهو المجمل الذي يكون بيانه تفسيرا له ونحن نجوز تأخير البيان في مثله، فأما فيما يكون مغيرا أو مبدلا للحكم إذا اتصل به، فإذا تأخر عنه يكون نسخا ولا يكون بيانا محضا، ودليل الخصوص في العام بهذه الصفة. ونظيره المحكمات التي هن أم الكتاب، فإن فيها ما لا يحتمل النسخ ويحتمل بيان التقرير كصفات الله جل جلاله، فكذلك ما ورد من العام مطلقا قلنا إنه يحتمل البيان الذي هو نسخ، ولكنه لا يحتمل البيان المحض وهو ما يكون تفسيرا له إذا كان منفصلا عنه. فأما قوله تعالى: * (قلنا احمل فيها من كل زوجين اثنين وأهلك) * قلنا البيان هنا موصول فإنه قال: * (إلا من سبق عليه القول) * والمراد ما سبق من وعد إهلاك الكفار بقوله تعالى: * (إنهم مغرقون) *.
فإن قيل: ففي ذلك الوعد نهي لنوح عليه الصلاة والسلام عن الكلام فيهم كما قال تعالى: * (ولا تخاطبني في الذين ظلموا) * فلو كان قوله * (إلا من سبق عليه القول) * منصرفا إلى ذلك لما استجاز نوح عليه الصلاة والسلام سؤال ابنه بقوله * (إن ابني من أهلي) * قلنا: إنما سأل لأنه كان دعاه إلى الايمان وكان يظن فيه أنه يؤمن حين تنزل الآية الكبرى وامتد رجاؤه لذلك إلى أن آيسه الله تعالى من ذلك بقوله تعالى: * (إنه عمل غير صالح) * فأعرض عنه عند ذلك وقال: * (رب إني أعوذ بك أن أسألك ما ليس لي به علم) * ونظيره استغفار إبراهيم عليه الصلاة والسلام لأبيه (بناء على رجاء أن يؤمن كما وعد، وإليه أشار في قوله تعالى: * (وما كان استغفار إبراهيم