صارت بالنصب، ومن قرأ (سلام) ليس مثل الذي قرأ بالنصب، نقول ذلك من حيث اللفظ والمعنى، أما اللفظ فلأنه يستثنى من المسموع وهو مفعول منصوب، فالنصب بقوله: * (لا يسمعون فيها لغوا) * وأما المعنى فلأنا بينا أن الاستثناء متصل، وقولهم: * (سلام) * أبعد من اللغو من قولهم: * (سلاما) * فقال: * (إلا قيلا سلاما) * ليكون أقرب إلى اللغو من غيره، وإن كان في نفسه بعيدا عنه.
ثم قال تعالى:
* (وأصحاب اليمين مآ أصحاب اليمين * فى سدر مخضود * وطلح منضود) *.
لما بين حال السابقين شرع في شأن أصحاب الميمنة من الأزواج الثلاثة، وفيه مسائل: المسألة الأولى: ما الفائدة في ذكرهم بلفظ: * (أصحاب الميمنة) * (الواقعة: 8) عند ذكر الأقسام، وبلفظ: * (أصحاب اليمين) * عند ذكر الإنعام؟ نقول: الميمنة مفعلة إما بمعنى موضع اليمين كالمحكمة لموضع الحكم، أي الأرض التي فيها اليمين وإما بمعنى موضع اليمن كالمنارة موضع النار، والمجمرة موضع الجمر، فكيفما كان الميمنة فيها دلالة على الموضع، لكن الأزواج الثلاثة في أول الأمر يتميز بعضهم عن بعض، ويتفرقون لقوله تعالى: * (يومئذ يتفرقون) * (الروم) 14) وقال: * (يصدعون) * (الروم: 43) فيتفرقون بالمكان فأشار في الأول إليهم بلفظ يدل على المكان، ثم عند الثواب وقع تفرقهم بأمر مبهم لا يتشاركون فيه كالمكان، فقال: * (وأصحاب اليمين) * وفيه وجوه أحدها: أصحاب اليمين الذين يأخذون بأيمانهم كتبهم ثانيها: أصحاب القوة ثالثها: أصحاب النور، وقد تقدم بيانه.
المسألة الثانية: ما الحكمة في قوله تعالى: * (في سدر) * وأية نعمة تكون في كونهم في سدر، والسدر من أشجار البوادي، لا بمر ولا بحلو ولا بطيب؟ نقول: فيه حكمة بالغة غفلت عنها الأوائل والأواخر، واقتصروا في الجواب والتقريب أن الجنة تمثل بما كان عند العرب عزيزا محمودا، وهو صواب ولكنه غير فائق، والفائق الرائق الذي هو بتفسير كلام الله لائق، هو أن نقول: إنا قد بينا مرارا أن البليغ يذكر طرفي أمرين، يتضمن ذكرهما الإشارة إلى جميع ما بينهما، كما يقال: فلان ملك الشرق والغرب، ويفهم منه أنه ملكهما وملك ما بينهما، ويقال: فلان أرضى الصغير والكبير، ويفهم منه أنه أرضى كل أحد إلى غير ذلك، فنقول: لا خفاء في أن تزين المواضع التي يتفرج فيها بالأشجار، وتلك الأشجار تارة يطلب منها نفس الورق والنظر إليه والاستظلال به، وتارة يقصد إلى ثمارها، وتارة يجمع بينهما، لكن الأشجار أوراقها على أقسام كثيرة، ويجمعها نوعان: أوراث صغار، وأوراق كبار، والسدر في غاية الصغر، والطلح وهو شجر الموز في غاية الكبر، فقوله تعالى: * (في سدر مخضود وطلح منضود) * إشارة إلى ما يكون ورقه