لم يكن بنا إلى حمل الآية على هذا المجاز حاجة، وذكروا في الظاهر والباطن أن الظاهر هو الغالب العالي على كل شيء، ومنه قوله تعالى: * (فأصبحوا ظاهرين) * (الصف: 14) أي غالبين عالين، من قولك: ظهرت على فلان أي علوته، ومنه قوله تعالى: * (عليها يظهرون) * (الزخرف: 33) وهذا معنى ما روى في الحديث: " وأنت الظاهر فليس فوقك شيء " وأما الباطن فقال الزجاج: إنه العالم بما بطن، كما يقول القائل: فلان يظن أمر فلان، أي يعلم أحواله الباطنة قال الليث: يقال: أنت أبطن بهذا الأمر من فلان، أي أخبر بباطنه، فمعنى كونه باطنا، كونه عالما ببواطن الأمور، وهذا التفسير عندي فيه نظر، لأن قوله بعد ذلك: * (وهو بكل شيء عليم) * يكون تكرارا.
أما على التفسير الأول فإنه يحسن موقعه لأنه يصير التقدير كأنه قيل: إن أحدا لا يحيط به ولا يصل إلى أسراره، وإنه لا يخفى عليه شيء من أحوال غيره ونظيره * (تعلم ما في نفسي ولا أعلم ما في نفسك) * (المائدة: 116).
* (هو الذى خلق السماوات والارض فى ستة أيام ثم استوى على العرش يعلم ما يلج فى الارض وما يخرج منها وما ينزل من السمآء وما يعرج فيها وهو معكم أين ما كنتم والله بما تعملون بصير) *.
قوله تعالى: * (هو الذي خلق السماوات والأرض في ستة أيام ثم استوى على العرش) * وهو مفسر في الأعراف والمقصود منه دلائل القدرة.
ثم قال تعالى: * (يعلم ما يلج في الأرض وما يخرج منها وما ينزل من السماء وما يعرج فيها) * وهو مفسر في سبأ، والمقصود منه كمال العلم، وإنما قدم وصف القدرة على وصف العلم، لأن العلم بكونه تعالى قادرا قبل العلم بكونه تعالى عالما، ولذلك ذهب جمع من المحققين إلى أن أول العلم بالله، هو العلم بكونه قادرا، وذهب آخرون إلى أن أول العلم بالله هو العلم بكونه مؤثرا، وعلى التقديرين فالعلم بكونه قادرا متقدم على العلم بكونه عالما.
ثم قال تعالى: * (وهو معكم أين ما كنتم والله بما تعملون بصير) * وفيه مسائل:
المسألة الأولى: اعلم أنه قد ثبت أن كل ما عدا الواجب الحق فهو ممكن، وكل ممكن فوجوده من الواجب، فإذن وصول الماهية الممكنة إلى وجودها بواسطة إفادة الواجب الحق ذلك الوجود لتلك الماهية فالحق سبحانه هو المتوسط بين كل ماهية وبين وجودها، فهو إلى كل ماهية أقرب من وجود تلك الماهية، ومن هذا السر قال المحققون: ما رأيت شيئا إلا ورأيت شيئا إلا ورأيت الله قبله، وقال المتوسطون: ما رأيت شيئا إلا ورأيت الله معه، وقال الظاهريون: ما رأيت الله بعده.
واعلم أن هذه الدقائق التي أظهرناها في هذه المواضع لها درجتان إحداهما: أن يصل الإنسان إليها بمقتضى الفكرة والروية والتأمل والتدبر والدرجة الثانية: أن تتفق لنفس الإنسان