النور ولولا ذلك لم يكن بأن يصف نفسه بأنه يخرجهم من الظلمات إلى النور أولى من أن يصف نفسه بأنه يخرجهم من النور إلى الظلمات.
واعلم أن هذا الكلام على خسته وروغته معارض بالعلم، وذلك لأنه تعالى كان عالما بأن علمه سبحانه بعدم إيمانهم قائم، وعالما بأن هذا العلم ينافي وجود الإيمان، فإذا كلفهم بتكوين أحد الضدين مع علمه بقيام الضد الآخر في الوجود بحيث لا يمكن إزالته وإبطاله، فهل يعقل مع ذلك أن يريد بهم ذلك الخير والإحسان، لا شك أن مما لا يقوله عاقل، وإذا توجهت المعارضة زالت تلك القوة، أما قوله: * (وإن الله بكم لرءوف رحيم) * فقد حمله بعضهم على بعثة محمد صلى الله عليه وسلم فقط، وهذا التخصيص لا وجه له، بل يدخل فيه ذلك مع سائر ما يتمكن به المرء من أداء التكاليف.
* (وما لكم ألا تنفقوا فى سبيل الله ولله ميراث السماوات والارض لا يستوى منكم من أنفق من قبل الفتح وقاتل أولئك أعظم درجة من الذين أنفقوا من بعد وقاتلوا وكلا وعد الله الحسنى والله بما تعملون خبير) *.
ثم قال تعالى: * (وما لكم ألا تنفقوا في سبيل الله ولله ميراث السماوات والأرض) *. لما أمر أولا بالإيمان وبالإنفاق، ثم أكد في الآية المتقدمة إيجاب الإيمان أتبعه في هذه الآية بتأكيد إيجاب الإنفاق، والمعنى أنكم ستموتون فتورثون، فهلا قدمتموه في الإنفاق في طاعة الله، وتحقيقه أن المال لا بد وأن يخرج عن اليد، إما بالموت وإما بالإنفاق في سبيل الله، فإن وقع على الوجه الأول، كان أثره اللعن والمقت والعقاب، وإن وقع على الوجه الثاني، كان أثره المدح والثواب، وإذا كان لا بد من خروجه عن اليد، فكل عاقل يعلم أن خروجه عن اليد بحيث يستعقب المدح والثواب أولى منه بحيث يستعقب اللعن والعقاب. ثم لما بين تعالى أن الإنفاق فضيلة بين أن المسابقة في الإنفاق تمام الفضيلة فقال: * (لا يستوي منكم من أنفق من قبل الفتح وقاتل، أولئك أعظم درجة من الذين أنفقوا من بعد وقاتلوا) * وفيه مسائل:
المسألة الأولى: تقدير الآية: لا يستوي منكم من أنفق من قبل الفتح، ومن أنفق من بعد الفتح، كما قال: * (لا يستوي أصحاب النار وأصحاب الجنة) * (الحشر: 20) إلا أنه حذف لوضوح الحال.
المسألة الثانية: المراد بهذا الفتح فتح مكة، لأن إطلاق لفظ الفتح في المتعارف ينصرف إليه، قال عليه الصلاة والسلام: " لا هجرة بعد الفتح " وقال أبو مسلم: ويدل القرآن على فتح آخر بقوله: * (فجعل من دون ذلك فتحا قريبا) * (الفتح: 27) وأيهما كان، فقد بين الله عظم موقع الإنفاق قبل الفتح.