إلا في كتاب) * (سبأ: 3) أن في قوله * (أكبر) * فائدة عظيمة وهي أن من يكتب حساب إنسان فإنما يكتبه في غالب الأمر لئلا ينسى فإذا جاء بالجملة العظيمة التي يأمن نسيانها ربما يترك كتابتها ويشتغل بكتابة ما يخاف نسيانه، فلما قال: * (ولا أكبر) * أشار إلى الأمور العظام التي يؤمن من نسيانها أنها مكتوبة أي ليست كتابتنا مثل كتابتكم التي يكون المقصود منها الأمن من النسيان، فكذلك نقول: ههنا وفي قوله: * (ما لهذا الكتاب لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها) * (الكهف: 49) وفي جميع هذه المواضع قدم الصغيرة لأنها أليق بالتثبت عند الكتابة فيبتدئ بها حفظا عن النسيان في عادة الخلق فأجرى الله الذكر على عادتهم، وهذا يؤيد ما ذكرنا من قبل أن كلا وإن كان نكرة يحسن الابتداء به للعموم وعدم الإبهام.
ثم قال تعالى:
* (إن المتقين فى جنات ونهر) *.
قد ذكرنا تفسير المتقين والجنات في سور منها: * (الطور) * وأما النهر ففيه قراءات فتح النون والهاء كحجر وهو اسم جنس ويقوم مقام الأنهار وهذا هو الظاهر الأصح وفيه مسائل:
المسألة الأولى: لا شك أن كمال اللذة بالبستان أن يكون الإنسان فيه، وليس من اللذة بالنهر أن يكون الإنسان فيه، بل لذته أن يكون في الجنة عند النهر، فما فمعنى قوله تعالى: * (ونهر) *؟ نقول: قد أجبنا عن هذا في تفسير قوله تعالى: * (إن المتقين في جنات وعيون) * (الذاريات: 15) في سورة الذاريات، وقلنا: المراد في خلال العيون، وفيما بينها من المكان وكذلك في جنات لأن الجنة هي الأشجار التي تستر شعاع الشمس، ولهذا قال تعالى: * (في ظلال وعيون) * (المرسلات: 41). وإذا كانت الجنة هي الأشجار الساترة فالإنسان لا يكون في الأشجار وإنما يكون بينها أو خلالها، فكذلك النهر، ونزيد ههنا وجها آخر وهو أن المراد في جنات وعند نهر لكون المجاورة تحسن إطلاق اللفظ الذي لا يحسن إطلاقه عند عدم المجاورة كما قال: علفتها تبنا وماء باردا (c) وقالوا: تقلدت سيفا ورمحا، والماء لا يعلف والرمح لا يتقلد ولكن لمجاورة التبن والسيف حسن الإطلاق فكذلك هنا لم يأت في الثاني بما أتى به في الأول من كلمة في.
المسألة الثانية: وحد النهر مع جمع الجنات وجمع الأنهار وفي كثير من المواضع كما في قوله تعالى: * (تجري من تحتها الأنهار) * (البقرة: 25) إلى غيره من المواضع فما الحكمة فيه؟ نقول: أما على الجواب الأول فنقول: لما بين أن معنى في نهر في خلال فلم يكن للسامع حاجة إلى سماع الأنهار، لعلمه بأن النهر الواحد لا يكون له خلال.
وأما في قوله تعالى: * (تجري من تحتها الأنهار) * فلو لم يجمع الأنهار لجاز أن يفهم أن في الجنات كلها نهرا واحدا كما في الدنيا فقد يكون نهر واحد ممتد جار في جنات كثيرة وأما على الثاني فنقول: الإنسان يكون في جنات لأنا بينا أن الجمع في جنات إشارة إلى سعتها وكثرة