مشتركان في إثبات خلاف ما تقدم، نقول: المجاز في الأسماء أولى من المجاز في الحروف لأنها تقبل التغير في الدلالة وتتغير في الأحوال، ولا كذلك الحروف لأن الحروف لا تصير مجازا إلا بالاقتران باسم والاسم يصير مجازا من غير الاقتران بحرف فإنك تقول: رأيت أسدا يرمي ويكون مجازا ولا اقتران له بحرف، وكذلك إذا قلت لرجل: هذا أسد وتريد بأسد كامل الشجاعة، ولأن عرض المتكلم في قوله مالي ذنب إلا أني أحبك، لا يحصل بما ذكرت من المجاز، ولأن العدول عن الأصل لا يكون له فائدة من المبالغة والبلاغة.
المسألة الخامسة: في قوله تعالى: * (قيلا) * قولان: أحدهما: إنه مصدر كالقول فيكون قيلا مصدرا، كما أن القول مصدر لكن لا يظهر له في باب فعل يفعل إلا حرف ثانيهما: إنه اسم والقول مصدر فهو كالسدل والستر بكسر السين اسم وبفتحها مصدر وهو الأظهر، وعلى هذا نقول: الظاهر أنه اسم مأخوذ من فعل هو: قال وقيل، لما لم يذكر فاعله، وما قيل: إن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن القيل والقال، يكون معناه نهى عن المشاجرة، وحكاية أمور جرت بين أقوام لا فائدة في ذكرها، وليس فيها إلا مجرد الحكاية من غير وعظ ولا حكمة لقوله صلى الله عليه وسلم: " رحم الله عبدا قال خيرا فغنم، أو سكت فسلم " وعلى هذا فالقيل اسم لقول لم يعلم قائله، والقال اسم للقول مأخوذ من قيل لما لم يذكر فاعله، تقول: قال فلان كذا، ثم قيل له: كذا، فقال: كذا، فيكون حاصل كلامه قيل وقال، وعلى هذا فالقيل اسم لقول لم يعلم قائله، والقال مأخوذ من قيل هو قال، ولقائل أن يقول: هذا باطل لقوله تعالى: * (وقيله يا رب إن هؤلاء قوم لا يؤمنون) * (الزخرف: 88) فإن الضمير للرسول صلى الله عليه وسلم أي يعلم الله قيل محمد: * (يا رب إن هؤلاء قوم لا يؤمنون) *، كما قال نوح عليه السلام: * (إنك إن تذرهم يضلوا عبادك) * (نوح: 27)، وعلى هذا فقوله تعالى: * (فاصفح عنهم وقل سلام) * (الزخرف: 89) إرشاد له لئلا يدعو على قومه عند يأسه منهم كما دعا عليهم نوح عنده، وإذا كان القول مضافا إلى محمد صلى الله عليه وسلم فلا يكون القيل اسما لقول لم يعلم قائله؟ فنقول: الجواب عنه من وجهين أحدهما: إن قولنا: إنه اسم مأخوذ من قيل الموضوع لقول لم يعلم قائله في الأصل لا ينافي جواز استعماله في قول من علم بغير الموضوع وثانيهما: وهو الجواب الدقيق أن نقول: الهاء في: * (وقيله) * ضمير كما في ربه وكالضمير المجهول عند الكوفيين وهو ضمير الشأن، وعند البصريين قال: * (فإنها لا تعمي الأبصار) * (الحج: 46) والهاء غير عائد إلى مذكور، غير أن الكوفيين جعلوه لغير معلوم والبصريين جعلوه ضمير القصة، والظاهر في هذه المسألة قول الكوفيين، وعلى هذا معنى عبارتهم بلغ غاية علم الله تعالى قيل القائل منهم: * (يا رب إن هؤلاء) *، إشارة إلى أن الاختصاص بذلك القول في كل أحد إنهم لا يؤمنون لعلمه أنهم قائلون بهذا وأنهم عالمون، وأهل السماء علموا بأن عند الله علم الساعة يعلمها فيعلم قول من يقول: * (يا رب إن هؤلاء قوم لا يؤمنون) * (الزخرف: 88) من غير تعيين قول لاشتراك الكل فيه، ويؤيد هذا أن الضمير لو كان عائدا إلى معلوم فإما أن يكون إلى مذكور قبله، ولا شيء فيما