يحسن الاستفهام بمعنى الإنكار مثل ما يحسن الاستفهام عن هيئة السماء والأرض والنجم والشجر والشمس والقمر وغيرها مما يدرك ويشاهد، لكن النار والجنة ذكرتا للترهيب والترغيب كما بينا أن المراد فبأيهما تكذبان فتستحقان العذاب وتحرمان الثواب.
ثم قال تعالى:
* (ولمن خاف مقام ربه جنتان * فبأى ءالاء ربكما تكذبان) *.
وفيه لطائف: الأولى: التعريف في عذاب جهنم قال: * (هذه جهنم) * (الرحمن: 43) والتنكير في الثواب بالجنة إشارة إلى أن كثرة المراتب التي لا تحد ونعمه التي لا تعد، وليعلم أن آخر العذاب جهنم وأول مراتب الثواب الجنة ثم بعدها مراتب وزيادات الثانية: قد ذكرنا في تفسير قوله تعالى: * (فذكر بالقرآن من يخاف وعيد) * (ق: 45) أن الخوف خشية سببها ذل الخاشي، والخشية خوف سببه عظمة المخشى، قال تعالى: * (إنما يخشى الله من عباده العلماء) * (فاطر: 28) لأنهم عرفوا عظمة الله فخافوه لا لذل منهم، بل لعظمة جانب الله، وكذلك قوله: * (من خشية ربهم مشفقون) * (المؤمنون: 57) وقال تعالى: * (لو أنزلنا هذا القرآن على جبل لرأيته خاشعا متصدعا من خشية الله) * (الحشر: 21) أي لو كان المنزل عليه العالم بالمنزل كالجبل العظيم في القوة والارتفاع لتصدع من خشية الله لعظمته، وكذلك قوله تعالى: * (وتخشى الناس والله أحق أن تخشاه) * (الأحزاب: 37) وإنما قلنا: إن الخشية تدل على ما ذكرنا لأن الشيخ للسيد والرجل الكبير يدل على حصول معنى العظمة في خ ش ي، وقال تعالى في الخوف: * (ولا تخف سنعيدها) * (طه: 21) لما كان الخوف يضعف في موسى، وقال: * (لا تخف ولا تحزن) * (العنكبوت: 33) وقال: * (فأخاف أن يقتلون) * (الشعراء: 14) وقال إني: * (خفت الموالي من ورائي) * (مريم: 5) ويدل عليه تقاليب خ وف فإن قولك خفي قريب منه، والخافي فيه ضعف والأخيف يدل عليه أيضا، وإذا علم هذا فالله تعالى مخوف ومخشي، والعبد من الله خائف وخاش، لأنه إذا نظر إلى نفسه رآها في غاية الضعف فهو خائف، وإذا نظر إلى حضرة الله رآها في غاية العظمة فهو خاش، لكن درجة الخاشي فوق درجة الخائف، فلهذا قال: * (إنما يخشى الله من عباده العلماء) * جعله منحصرا فيهم لأنهم وإن فرضوا أنفسهم على غير ما هم عليه، وقدروا أن الله رفع عنهم جميع ما هم فيه من الحوائج لا يتركون خشيته، بل تزداد خشيتهم، وإما الذي يخافه من حيث إنه يفقره أو يسلب جاهه، فربما يقل خوفه إذا أمن ذلك، فلذلك قال تعالى: * (ولمن خاف مقام ربه جنتان) * وإذا كان هذا للخائف فما ظنك بالخاشي؟ الثالثة: لما ذكر الخوف ذكر المقام، وعند الخشية ذكر اسمه الكريم فقال: * (إنما يخشى الله) * وقال: * (لرأيته خاشعا متصدعا من خشية الله) * وقال عليه السلام: " خشية الله رأس كل حكمة " لأنه يعرف ربه بالعظمة فيخشاه. وفي مقام ربه قولان: أحدهما: مقام ربه أي المقام الذي يقوم هو فيه بين يدي ربه، وهو مقام عبادته كما يقال: هذا معبد الله وهذا معبد الباري أي المقام الذي يعبد الله العبد فيه والثاني: مقام ربه الموضع الذي فيه الله قائم على عباده من قوله تعالى: