أكثر الأمر بمن حواليه وهم كانوا مشركين ومتهودين والمشركون كانوا يعظمون إبراهيم عليه السلام لكونه أباهم، وأما قوله تعالى: * (وفى) * ففيه وجهان أحدهما: أنه الوفاء الذي يذكر في العهود وعلى هذا فالتشديد للمبالغة يقال وفى ووفى كقطع وقطع وقتل وقتل، وهو ظاهر لأنه وفى بالنذر وأضجع ابنه للذبح، وورد في حقه: * (قد صدقت الرؤيا) * (الصافات: 105) وقال تعالى: * (إن هذا لهو البلاء المبين) * (الصافات: 106) وثانيهما: أنه من التوفية التي من الوفاء وهو التمام والتوفية الإتمام يقال وفاه أي أعطاه تاما، وعلى هذا فهو من قوله: * (وإذا ابتلى إبراهيم ربه بكلمات فأتمهن) * (البقرة: 124) وقيل: * (وفى) * أي أعطى حقوق الله في بدنه، وعلى هذا فهو على ضد من قال تعالى فيه: * (وأعطى قليلا وأكدى) * مدح إبراهيم ولم يصف موسى عليه السلام، نقول: أما بيان توفيته ففيه لطيفة وهي أنه لم يعهد عهدا إلا وفى به، وقال لأبيه: * (سأستغفر لك ربي) * (يوسف: 98) فاستغفر ووفى بالعهد ولم يغفر الله له، فعلم * (أن ليس للإنسان إلا ما سعى) * وأن وزره لا تزره نفس أخرى، وأما مدح إبراهيم عليه السلام فلأنه كان متفقا عليه بين اليهود والمشركين والمسلمين ولم ينكر أحد كونه وفيا، وموفيا، وربما كان المشركون يتوقفون في وصف موسى عليه السلام، ثم قال تعالى: * (ألا تزر وازرة وزر أخرى) * وقد تقدم تفسيره في سورة الملائكة، والذي يحسن بهذا الموضع مسائل:
الأولى: أنا بينا أن الظاهر أن المراد من قوله: * (بما في صحف موسى) * هو ما بينه بقوله * (ألا تزر) * فيكون هذا بدلا عن ما وتقديره أم لم ينبأ بألا تزر وذكرنا هناك وجهين أحدهما: المراد أن الآخرة خير وأبقى وثانيهما: الأصول.
المسألة الثانية: * (ألا تزر) * أن خفيفة من الثقيلة كأنه قال: أنه لا تزر وتخفيف الثقيلة لازم وغير لازم جائز وغير جائز، فاللازم عندما يكون بعدها فعل أو حرف داخل على فعل، ولزم فيها التخفيف، لأنها مشبهة بالفعل في اللفظ والمعنى، والفعل لا يمكن إدخاله على فعل فأخرج عن شبه الفعل إلى صورة تكون حرفا مختصا بالفعل فتناسب الفعل فتدخل عليه.
المسألة الثالثة: إن قال قائل: الآية مذكورة لبيان أن وزر المسئ لا يحمل عنه وبهذا الكلام لا تحصل هذه الفائدة لأن الوازرة تكون مثقلة بوزرها فيعلم كل أحد أنها لا تحمل شيئا ولو قال لا تحمل فارغة وزر أخرى كان أبلغ تقول ليس كما ظننت، وذلك لأن المراد من الوازرة هي التي يتوقع منها الوزر والحمل لا التي وزرت وحملت كما يقال: شقاني الحمل، وإن لم يكن عليه في الحال حمل، وإذا لم تزر تلك النفس التي يتوقع منها ذلك فكيف تتحمل وزر غيرها فتكون الفائدة كاملة.
وقوله تعالى: * (وأن ليس للإنسان إلا ما سعى) * تتمة بيان أحوال المكلف فإنه لما بين له