إما أن يكون جمع مثل، وإما جمع مثل، فإن كان جمع مثل فنقول معناه قدرنا بينكم الموت على هذا الوجه، وهو أن نغير أوصافكم فتكونوا أطفالا، ثم شبانا، ثم كهولا، ثم شيوخا، ثم يدرككم الأجل، وما قدرنا بينكم الموت على أن نهلككم دفعة واحدة إلا إذا جاء وقت ذلك فتهلكون بنفخة واحدة وإن قلنا: هو جمع مثل فنقول معنى: * (نبدل أمثالكم) * نجعل أمثالكم بدلا وبدله بمعنى جعله بدلا، ولم يحسن أن يقال: بدلناكم على هذا الوجه، لأنه يفيد أنا جعلنا بدلا فلا يدل على وقوع الفناء عليهم، غاية ما في الباب أن قول القائل: جعلت كذا بدلا لا تتم فائدته إلا إذا قال: جعلته بدلا عن كذا لكنه تعالى لما قال: * (نبدل أمثالكم) * فالمثل يدل على المثل، فكأنه قال: جعلنا أمثالكم بدلا لكم، ومعناه على ما ذكرنا أنه لم نقدر الموت على أن نفني الخلق دفعة بل قدرناه على أن نجعل مثلهم بدلهم مدة طويلة ثم نهلكهم جميعا ثم ننشئهم، وقوله تعالى: * (فيما لا تعلمون) * على الوجه المشهور في التفسير أنه فيما لا تعلمون من الأوصاف والأخلاق، والظاهر أن المراد: * (فيما لا تعلمون) * من الأوصاف والزمان، فإن أحدا لا يدري أنه متى يموت ومتى ينشأ أو كأنهم قالوا: ومتى الساعة والإنشاء؟ فقال: لا علم لكم بهما، هذا إذا قلنا: إن المراد ما ذكر فيه على الوجه المشهور وفيه لطيفة: وهي أن قوله: * (فيما لا تعلمون) * تقرير لقوله: * (أأنتم تخلقونه أم نحن الخالقون) * (الواقعة: 59) وكأنه قال: كيف يمكن أن تقولوا هذا وأنتم تنشأون في بطون أمهاتكم على أوصاف لا تعلمون وكيف يكون خالق الشيء غير عالم به؟ وهو كقوله تعالى: * (هو أعلم بكم إذ أنشأكم من الأرض وإذ أنتم أجنة في بطون أمهاتكم) * (النجم: 32) وعلى ما ذكرنا فيه فائدة وهي التحريض على العمل الصالح، لأن التبديل والإنشاء وهو الموت والحشر إذا كان واقعا في زمان لا يعلمه أحد فينبغي أن لا يتكل الإنسان على طول المدة ولا يغفل عن إعداد العدة، وقال تعالى: * (ولقد علمتم النشأة الأولى) * تقريرا لإمكان النشأة الثانية.
ثم قال تعالى:
* (أفرءيتم ما تحرثون * أءنتم تزرعونه أم نحن الزارعون) *.
ذكر بعد دليل الخلق دليل الرزق فقوله: * (أفرأيتم ما تمنون) * إشارة إلى دليل الخلق وبه الابتداء، وقوله: * (أفرأيتم ما تحرثون) * إشارة إلى دليل الرزق وبه البقاء، وذكر أمورا ثلاثة المأكول، والمشروب، وما به إصلاح المأكول، ورتبه ترتيبا فذكر المأكول أولا لأنه هو الغذاء، ثم المشروب لأن به الاستمراء، ثم النار للتي بها الإصلاح وذكر من كل نوع ما هو الأصل، فذكر من المأكول الحب فإنه هو الأصل، ومن المشروب الماء لأنه هو الأصل، وذكر من المصلحات النار لأن بها إصلاح أكثر الأغذية وأعمها، ودخل في كل واحد منها ما هو دونه، هذا هو الترتيب، وأما التفسير فنقول: الفرق بين الحرث والزرع هو أن الحرث أوائل الزرع ومقدماته