المسألة الثالثة: ما الحكمة في وصف الفاكهة بالكثرة، لا بالطيب واللذة؟ نقول: قد بينا في سورة الرحمن أن الفاكهة فاعلة كالراضية في قوله: * (في عيشة راضية) * (الحاقة: 21) أي ذات فكهة، وهي لا تكون بالطبيعة إلا بالطيب واللذة، وأما الكثرة، فبينا أن الله تعالى حيث ذكر الفاكهة ذكر ما يدل على الكثرة، لأنها ليست لدفع الحاجة حتى تكون بقدر الحاجة، بل هي للتنعم، فوصفها بالكثرة والتنوع.
المسألة الرابعة: * (لا مقطوعة) * أي ليست كفواكه الدنيا، فإنها تنقطع في أكثر الأوقات والأزمان، وفي كثير من المواضع والأماكن * (ولا ممنوعة) * أي لا تمنع من الناس لطلب الأعواض والأثمان، والممنوع من الناس لطلب الأعواض والأثمان ظاهر في الحس، لأن الفاكهة في الدنيا تمنع عن البعض فهي ممنوعة، وفي الآخرة ليست ممنوعة. وأما القطع فيقال في الدنيا: إنها انقطعت فهي منقطعة لا مقطوعة، فقوله تعالى: * (لا مقطوعة) * في غاية الحسن، لأن فيه إشارة إلى دليل عدم القطع، كما أن في: * (لا ممنوعة) * دليلا على عدم المنع، وبيانه هو أن الفاكهة في الدنيا لا تمنع إلا لطلب العوض، وحاجة صاحبها إلى ثمنها لدفع حاجة به، وفي الآخرة مالكها الله تعالى ولا حاجة له، فلزم أن لا تمنع الفاكهة من أحد كالذي له فاكهة كثيرة، ولا يأكل ولا يبيع، ولا يحتاج إليها بوجه من الوجوه لا شك في أن يفرقها ولا يمنعها من أحد. وأما الانقطاع فنقول الذي يقال في الدنيا: الفاكهة انقطعت، ولا يقال عند وجودها: امتنعت، بل يقال: منعت، وذلك ون الإنسان لا يتكلم إلا بما يفهمه الصغير والكبير، ولكن كل أحد إذا نظر إلى الفاكهة زمان وجودها يرى أحدا يحوزها ويحفظها ولا يراها ينفسها تمتنع فيقول: إنها ممنوعة، وأما عند انقطاعها وفقدها لا يرى أحدا قطعها حسا وأعدمها فيظنها منقطعة بنفسها لعدم إحساسه بالقاطع ووجود إحساسه بالمانع، فقال تعالى: لو نظرتم في الدنيا حق النظر علمتم أن كل زمان نظرا إلى كونه ليلا ونهارا ممكن فيه الفاكهة فهي بنفسها لا تنقطع، وإنما لا توجد عند المحقق لقطع الله إياها وتخصيصها بزمان دون زمان، وعند غير المحقق لبرد الزمان وحره، وكونه محتاجا إلى الظهور والنمو والزهر ولذلك تجري العادة بأزمنة فهي يقطعها الزمان في نظر غير المحقق فإذا كانت الجنة ظلها ممدودا لا شمس هناك ولا زمهرير استوت الأزمنة والله تعالى يقطعها فلا تكون مقطوعة بسبب حقيقي ولا ظاهر، فالمقطوع يتفكر الإنسان فيه ويعلم أنه مقطوع لا منقطع من غير قاطع، وفي الجنة لا قاطع فلا تصير مقطوعة.
المسألة الخامسة: قدم نفي كونها مقطوعة لما أن القطع للموجود والمنع بعد الوجود لأنها توجد أولا ثم تمنع فإن لم تكن موجودة لا تكون ممنوعة محفوظة فقال: لا تقطع فتوجد أبدا ثم إن ذلك الموجود لا يمنع من أحد وهو ظاهر غير أنا نحب أن لا نترك شيئا مما يخطر بالبال ويكون صحيحا.