في مكان متميزين فذلك برهان القدرة والاختيار وعلى الوجه الثاني: الفائدة في بيان القدرة أيضا على المنع من الاختلاط، فإن الماءين إذا تلاقيا لا يمتزجان في الحال بل يبقيان زمانا يسيرا كالماء المسخن إذا غمس إناء مملوء منه في ماء بارد إن لم يمكث فيه زمانا لا يمتزج بالبارد، لكن إذا دام مجاورتهما فلا بد من الامتزاج فقال تعالى: * (مرج البحرين) * خلاهما ذهابا إلى أن يلتقيان ولا يمتزجان فذلك بقدرة الله تعالى.
ثم قال تعالى: * (بينهما برزخ لا يبغيان) * إشارة إلى ما ذكرنا من منعه إياهما من الجريان على عادتهما، والبرزخ الحاجز وهو قدرة الله تعالى في البعض وبقدرة الله في الباقي، فإن البحرين قد يكون بينهما حاجز أرضي محسوس وقد لا يكون، وقوله: * (لا يبغيان) * فيه وجهان أحدهما: من البغي أي لا يظلم أحدهما على الآخر بخلاف قول الطبيعي حيث يقول: الماءآن كلاهما جزء واحد، فقال: هما لا * (يبغيان) * ذلك وثانيهما: أن يقال: لا يبغيان من البغي بمعنى الطلب أي لا يطلبان شيئا، وعلى هذا ففيه وجه آخر، وهو أن يقال: إن يبغيان لا مفعول له معين، بل هو بيان أنهما لا يبغيان في ذاتهما ولا يطلبان شيئا أصلا، بخلاف ما يقول الطبيعي: أنه يطلب الحركة والسكون في موضع عن موضع.
ثم قال تعالى:
* (يخرج منهما اللؤلؤ والمرجان * فبأى ءالاء ربكما تكذبان) *.
وفيه مسائل:
المسألة الأولى: في القراءات التي فيها قرىء يخرج من خرج ويخرج بفتح الراء من أخرج وعلى الوجهين فاللؤلؤ والمرجان مرفوعان ويخرج بكسر الراء بمعنى يخرج الله ونخرج بالنون المضمومة والراء المكسورة، وعلى القراءتين ينصب اللؤلؤ والمرجان، اللؤلؤ كبار الدر والمرجان صغاره وقيل: المرجان هو الحجر الأحمر.
المسألة الثانية: اللؤلؤ لا يخرج إلا من المالح فكيف قال: * (منهما) *؟ نقول الجواب عنه من وجهين أحدهما: أن ظاهر كلام الله تعالى أولى بالاعتبار من كلام بعض الناس الذي لا يوثق بقوله، ومن علم أن اللؤلؤ لا يخرج من الماء العذب وهب أن الغواصين ما أخرجوه إلا من المالح وما وجدوه إلا فيه، لكن لا يلزم من هذا أن لا يوجد في الغير سلمنا لم قلتم: أن الصدف يخرج بأمر الله من الماء العذب إلى الماء المالح وكيف يمكن الجزم والأمور الأرضية الظاهرة خفيت عن التجار الذين قطعوا المفاوز وداروا البلاد فكيف لا يخفى أمر ما في قعر البحر عليهم ثانيهما: أن نقول: إن صح قولهم في اللؤلؤ إنه لا يخرج إلا من البحر المالح فنقول: فيه وجوه أحدها: أن الصدف لا يتولد فيه اللؤلؤ إلا من المطر وهو بحر السماء ثانيها: أنه يتولد في ملتقاهما ثم يدخل الصدف في المالح عند انعقاد الدر فيه طالبا للملوحة كالمتوحمة التي تشتهي الملوحة أوائل