نفسها وبيان ما عليها، فالنظر وقع عليها لا على الشاربين ولو كان المقصود أنهم لا يصدعون عنها لوصف منهم لما كان مدحا لها، وأما إذا قال: هي لا تصدع لأمر فيها يكون مدحا لها فلما وقع النظر عليها قال عنها، وأما إذا كنت تصف رجلا بكثرة الشرب وقوته عليه، فإنك تقول: في حقه هو لا يصدع من كذا من الخمر، فإذا وصفت الخمر تقول هذه لا يصدع عنها أحد.
المسألة الثالثة: قوله تعالى: * (ولا ينزفون) * تقدم تفسيره في الصافات والذي يحسن ذكره هنا أن نقول: إن كان معنى * (لا ينزفون) * لا يسكرون، فنقول: إما أن نقول معنى: * (لا يصدعون) * أنهم لا يصيبهم الصداع، وإما أنهم لا يفقدون، فإن قلنا: بالقول الأول فالترتيب في غاية الحسن لأنه على طريقة الارتقاء، فإن قوله تعالى: * (لا يصدعون) * معناه لا يصيبهم الصداع لكن هذا لا ينفي السكر فقال: بعده ولا يورث السكر، كقول القائل: ليس فيه مفسدة كثيرة، ثم يقول: ولا قليلة، تتميما للبيان، ولو عكست الترتيب لا يكون حسنا، وإن قلنا: * (لا ينزفون) * لا يفقدون فالترتيب أيضا كذلك لأن قولنا: * (لا يصدعون) * أي لا يفقدونه ومع كثرته ودوام شربه لا يسكرون فإن عدم السكر لنفاد الشراب ليس بعجب، لكن عدم سكرهم مع أنهم مستديمون للشراب عجيب وإن قلنا: * (لا ينزفون) * بمعنى لا ينفد شرابهم كما بينا هناك. فنقول: أيضا إن كان لا يصدعون بمعنى لا يصيبهم صداع فالترتيب في غاية الحسن، وذلك لأن قوله: * (لا يصدعون) * لا يكون بيان أمر عجيب إن كان شرابهم قليلا فقال: * (لا يصدعون عنها) * مع أنهم لا يفقدون الشراب ولا ينزفون الشراب، وإن كان بمعنى لا ينزفون عنها فالترتيب حسن لأن معناه لا ينزفون عنها بمعنى لا يخرجون عما هم فيه ولا يؤخذ منهم ما أعطوا من الشراب، ثم إذا أفنوها بالشراب يعطون.
ثم قال تعالى:
* (وفاكهة مما يتخيرون * ولحم طير مما يشتهون) *.
وفيه مسائل:
المسألة الأولى: ما وجه الجر، والفاكهة لا يطوف بها الولدان والعطف يقتضي ذلك؟ نقول: الجواب عنه من وجهين أحدهما: أن الفاكهة واللحم في الدنيا يطلبان في حالتين أحدهما: حالة الشرب والأخرى حال عدمه، فالفاكهة من رؤوس الأشجار تؤخذ، كما قال تعالى: * (قطوفها دانية) * (الحاقة: 23) وقال: * (وجنى الجنتين دان) * (الرحمن: 54) إلى غير ذلك، وأما حالة الشراب فجاز أن يطوف بها الولدان، فيناولوهم الفواكه الغريبة واللحوم العجيبة لا للأكل بل للإكرام، كما يضع المكرم للضيف أنواع الفواكه بيده عنده وإن كان كل واحد منهما مشاركا للآخر في القرب منها والوجه الثاني: أن يكون عطفا في المعنى على جنات النعيم، أي هم المقربون في جنات وفاكهة، ولحم وحور، أي في هذه النعم يتقلبون، والمشهور أنه عطف في اللفظ للمجاورة لا في المعنى، وكيف لا يجوز هذا، وقد جاز تقلد سيفا ورمحا.