بيوتهم المبنية بالحجارة والكلس وخفي عليهم وجوه الهلاك، يدعون مالك الفلك، وينسبون ما كانوا ينسبون البحر والفلك إليه، وإليه الإشارة بقوله: * (فإذا ركبوا في الفلك) * (العنكبوت: 65) الآية. المسألة الثانية: (الجواري) جمع جارية، وهي اسم للسفينة أو صفة، فإن كانت اسما لزم الاشتراك والأصل عدمه، وإن كانت صفة الأصل أن تكون الصفة جارية على الموصوف، ولم يذكر الموصوف هنا، فنقول: الظاهر أن تكون صفة للتي تجري ونقل عن الميداني أن الجارية السفينة التي تجري لما أنها موضوعة للجري، وسميت المملوكة جارية لأن الحرة تراد للسكن والازدواج، والمملوكة لتجري في الحوائج، لكنها غلبت السفينة، لأنها في أكثر أحوالها تجري، ودل العقل على ما ذكرنا من أن السفينة هي التي تجري غير أنها غلبت بسبب الاشتقاق على السفينة الجارية، ثم صار يطلق عليها ذلك وإن لم تجر، حتى يقال: للسفينة الساكنة أو المشدودة على ساحل البحر جارية، لما أنها تجري، وللملوكة الجالسة جارية للغلبة، ترك الموصوف، وأقيمت الصفة مقامه فقوله تعالى: * (وله الجوار) * أي السفن الجاريات، على أن السفينة أيضا فعيلة من السفن وهو النحت، وهي فعيلة بمعنى فاعلة عند ابن دريد أي تسفن الماء، أو فعيلة بمعنى مفعولة عند غيره بمعنى منحوتة فالجارية والسفينة جاريتان على الفلك وفيه لطيفة لفظية: وهي أن الله تعالى لما أمر نوحا عليه السلام باتخاذ السفينة، قال: * (واصنع الفلك بأعيننا) * (هود: 37) ففي أول الأمر قال لها: الفلك لأنها بعد لم تكن جرت، ثم سماها بعدما عملها سفينة كما قال تعالى: * (فأنجيناه وأصحاب السفينة) * (العنكبوت: 15) وسماها جارية كما قال تعالى: * (إنا لما طغا الماء حملناكم في الجارية) * (الحاقة: 11) وقد عرفنا أمر الفلك وجريها وصارت كالمسماة بها، فالفلك قبل الكل، ثم السفينة ثم الجارية.
المسألة الثالثة: ما معنى المنشآت؟ نقول: فيه وجهان أحدهما: المرفوعات من نشأت السحابة إذا ارتفعت، وأنشأ الله إذا رفعه وحينئذ إما هي بأنفسها مرتفعة في البحر، وإما مرفوعات الشراع وثانيهما: المحدثات الموجودات من أنشأ الله المخلوق أي خلقه فإن قيل: الوجه الثاني بعيد لأن قوله: * (في البحر كالأعلام) * متعلق بالمنشآت فكأنه قال: وله الجواري التي خلقت في البحر كالأعلام، وهذا غير مناسب، وأما على الأول فيكون كأنه قال: الجواري التي رفعت في البحر كالأعلام، وذلك جيد والدليل على صحة ما ذكرنا أنك تقول: الرجل الجرئ في الحرب كالأسد فيكون حسنا، ولو قلت: الرجل العالم بدل الجرئ في الحرب كالأسد لا يكون كذلك، نقول: إذا تأملت فيما ذكرنا من كون الجارية صفة أقيمت مقام الموصوف، كان الإنشاء بمعنى الخلق لا ينافي قوله: * (في البحر كالأعلام) * لأن التقدير حينئذ له السفن الجارية في البحر كالأعلام، فيكون أكثر بيانا للقدرة كأنه قال: له السفن التي تجري في البحر كالأعلام، أي كأنها الجبال والجبال لا تجري إلا بقدرة الله تعالى، فالأعلام جمع العلم الذي هو الجبل وأما الشراع المرفوع كالعلم الذي هو معروف، فلا عجب فيه، وليس العجب فيه كالعجب في جري الجبل في الماء وتكون المنشآت