لأن الكلام صار خطابا معهما، ولما قال الإنسان، دل على أن المخاطب غيره وهو العموم فيصير كأنه قال: يا أيها الخلق والسامعون إنا خلقنا الإنسان من صلصال كالفخار، وخلقنا الجان من مارج من نار. وسيأتي باقي البيان في مواضع من تفسير هذه السورة إن شاء الله تعالى الثاني: ما الحكمة في الخطاب ولم يسبق ذكر مخاطب، نقول: هو من باب الالتفات إذ مبنى افتتاح السورة على الخطاب مع كل من يسمع، فكأنه لما قال: * (الرحمن علم القرآن) * (الرحمن: 1، 2) قال: اسمعوا أيها السامعون، والخطاب للتقريع والزجر كأنه تعالى نبه الغافل المكذب على أنه يفرض نفسه كالواقف بين يدي ربه يقول له ربه: أنعمت عليك بكذا وكذا، ثم يقول: فبأي آلائي تكذب ولا شك أنه عند هذا يستحي استحياء لا يكون عنده فرض الغيبة الثالث: ما الفائدة في اختيار لفظة الرب وإذا خاطب أراد خطاب الواحد فلم قال: * (ربكما تكذبان) * وهو الحاضر المتكلم فكيف يجعل التكذيب المسند إلى المخاطب واردا على الغائب ولو قال: بأي آلائي تكذبان كان أليق في الخطاب؟ نقول: في السورة المتقدمة قال: * (كذبت ثمود بالنذر) * (القمر: 23) * (وكذبت قوم لوط بالنذر) * (القمر: 33) وقال: * (كذبوا بآياتنا) * (القمر: 42) وقال: * (فأخذناهم) * (القمر: 42) وقال: * (كيف كان عذابي ونذر) * (القمر: 21) كلها بالاستناد إلى ضمير المتكلم حيث كان ذلك للتخويف فالله تعالى أعظم من أن يخشى فلو قال: أخذهم القادر أو المهلك لما كان في التعظيم مثل قوله: * (فأخذناهم) * ولهذا قال تعالى: * (ويحذركم الله نفسه) * (آل عمران: 28، 30) وهذا كما أن المشهور بالقوة يقول أنا الذي تعرفني فيكون في إثبات الوعيد فوق قوله أنا المعذب فلما كان الإسناد إلى النفس مستعملا في تلك السورة عند الإهلاك والتعذيب ذكر في هذه السورة عند بيان الرحمة لفظ يزيل الهيبة وهو لفظ الرب فكأنه تعالى قال فبأي آلاء ربكما تكذبان وهو رباكما الرابع: ما الحكمة في تكرير هذه الآية وكونه إحدى وثلاثين مرة؟ نقول: الجواب عنه من وجوه الأول: إن فائدة التكرير التقرير وأما هذا العدد الخاص فالأعداد توقيفية لا تطلع على تقدير المقدرات أذهان الناس والأولى أن لا يبالغ الإنسان في استخراج الأمور البعيدة في كلام الله تعالى تمسكا بقول عمر رضي الله تعالى عنه حيث قال مع نفسه عند قراءته سورة عبس: كل هذا قد عرفناه فما الأب ثم رفع عصا كانت بيده وقال هذا لعمر الله التكليف وما عليك يا عمر أن لا تدري ما الأب ثم قال: اتبعوا ما بين لكم من هذا الكتاب وما لا فدعوه وسيأتي فائدة كلامه تعالى في تفسير السورة إن شاء الله تعالى الجواب الثاني: ما قلناه: إنه تعالى ذكر في السورة المتقدمة: * (فكيف كان عذابي ونذر) * أربع مرات لبيان ما في ذلك من المعنى وثلاث مرات للتقرير والتكرير وللثلاث والسبع من بين الأعداد فوائد ذكرناها في قوله تعالى: * (والبحر يمده من بعده سبعة أبحر) * (لقمان: 27) فلما ذكرنا العذاب ثلاث مرات ذكر الآلاء إحدى وثلاثين مرة لبيان ما فيه من المعنى وثلاثين مرة للتقرير الآلاء مذكورة عشر مرات أضعاف مرات ذكر العذاب إشارة إلى معنى قوله تعالى: * (من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها ومن جاء بالسيئة فلا يجزى إلا مثلها) * (الأنعام: 16)، الثالث: إن الثلاثين مرة تكرير بعد البيان في المرة الأولى لأن
(٩٦)