* (ما وراء ذلكم) * ضمير عائد إلى المذكور السابق، ومن جملة المذكور السابق قوله: * (ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم) * وذلك لأن الضمير يجب عوده إلى أقرب المذكورات، وأقرب المذكورات إليه هو من قوله: * (حرمت عليكم أمهاتكم) * (النساء: 23) فكان قوله: * (وأحل لكم ما وراء ذلكم) * عائدا إليه، ولا يدخل فيه قوله: * (ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم) * وأيضا نتمسك بعمومات الأحاديث كقوله عليه الصلاة والسلام: " إذا جاءكم من ترضون دينه فزوجوه " وقوله: " زوجوا بناتكم الأكفاء " فكل هذه العمومات يتناول: محل النزاع. واعلم أنا بينا في أصول الفقه أن الترجيح بكثرة الأدلة جائز، وإذا كان كذلك فنقول بتقدير أن يثبت لهم أن النكاح حقيقة في الوطء مجاز في العقد، فلو حملنا الآية على العقد لم يلزمنا إلا مجاز واحد، وبتقدير أن نحمل تلك الآية على حرمة النكاح يلزمنا هذه التخصيصات الكثيرة فكان الترجيح من جانبنا بسبب كثرة الدلائل.
الحجة الثالثة: الحديث المشهور في المسألة وهو قوله عليه الصلاة والسلام: " الحرام لا يحرم الحلال " أقصى ما في الباب أن يقال: إن قطرة من الخمر إذا وقعت في كوز من الماء فههنا الحرام حرم الحلال، وإذا اختلطت المنكوحة بالأجنبيات واشتبهت بهن، فههنا الحرام حرم الحلال، إلا أنا نقول: دخول التخصيص فيه في بعض الصور، ولا يمنع من الاستدلال به.
الحجة الرابعة: من جهة القياس أن نقول: المقتضى لجواز النكاح قائم، والفارق بين محل الاجماع وبين محل النزاع ظاهر، فوجب القول بالجواز، أما المقتضى فهو أن يقيس نكاح هذه المرأة على نكاح سائر النسوان عند حصول الشرائط المتفق عليها، بجامع ما في النكاح من المصالح، وأما الفارق فهو أن هذه المحرمية إنما حكم الشرع بثبوتها، سعيا في إبقاء الوصلة الحاصلة بسبب النكاح ومعلوم أن هذا لا يليق بالزنا.
بيان المقام الأول: من تزوج بامرأة، فلو لم يدخل على المرأة أب الرجل وابنه. ولم تدخل على الرجل أم المرأة وبنتها، لبقيت المرأة كالمحبوسة في البيت، ولتعطل على الزوج والزوجة أكثر المصالح ولو أذنا في هذا الدخول ولم نحكم بالمحرمية فربما امتد عين البعض إلى البعض وحصل الميل والرغبة وعند حصول التزوج بأمها أو ابنتها تحصل النفرة الشديدة بينهن، لأن صدور الايذاء عن الأقارب أقوى وقعا وأشد إيلاما وتأثيرا، وعند حصول النفرة الشديدة يحصل التطليق والفراق، أما إذا حصلت المحرمية انقطعت الأطماع وانحبست الشهورة، فلا يحصل ذلك الضرر، فبقي النكاح بين الزوجين سليما عن هذه المفسدة، فثبت أن المقصود من حكم الشرع بهذه المحرمية، السعي في تقرير الاتصال الحاصل بين الزوجين، وإذا كان المقصود من شرع المحرمية ابقاء ذلك الاتصال، فمعلوم