وجل: (إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا) [الحجرات: 6] وذلك عموم في إيجاب التثبت في سائر أخبار الفساق، والشهادة خبر، فوجب التثبت فيها إذا كان الشاهد فاسقا. فلما نص الله على التثبت في خبر الفاسق وأوجب علينا قبول شهادة العدول المرضيين وكان الفسق قد يعلم من جهة اليقين والعدالة لا تعلم من جهة اليقين دون ظاهر الحال، علمنا أنها مبنية على غالب الظن وما يظهر من صلاح الشاهد وصدق لهجته وأمانته، وهذا وإن كان مبنيا على أكثر الظن فهو ضرب من العلم كما قال تعالى في المهاجرات: (فإن علمتموهن مؤمنات فلا ترجعوهن إلى الكفار) [الممتحنة: 10] وهذا هو علم الظاهر دون الحقيقة، فكذلك الحكم بعدالة الشاهد طريقه العلم الظاهر دون المغيب الذي لا يعلمه إلا الله تعالى. وهذا أصل كبير في الدلالة على صحة القول باجتهاد الرأي في أحكام الحوادث، إذ كانت الشهادات من معالم أمور الدين والدنيا، وقد عقد بها مصالح الخلق في وثائقهم وإثبات حقوقهم وأملاكهم وإثبات الأنساب والدماء والفروج، وهي مبنية على غالب الظن وأكثر الرأي، إذ لا يمكن أحدا من الناس إمضاء حكم بشهادة شهود من طريق حقيقة العلم بصحة المشهود به. وهو يدل على بطلان القول بإمام معصوم في كل زمان، واحتجاج من يحتج فيه بأن أمور الدين كلها ينبغي أن تكون مبنية على ما يوجب العلم الحقيقي دون غالب الظن وأكثر الرأي، وأنه متى لم يكن إمام بهذه الصفة لم يؤمن الخطأ فيها لأن الرأي يخطئ ويصيب، لأنه لو كان كما زعموا لوجب أن لا تقبل شهادة الشهود إلا أن يكونوا معصومين مأمونا عليهم الخطأ والزلل، فلما أمر الله تعالى بقبول شهادة الشهود إذا كانوا مرضيين في ظاهر أحوالهم دون العلم بحقيقة مغيب أمورهم مع جواز الكذب والغلط عليهم، ثبت بطلان الأصل الذي بنوا عليه أمر النص. فإن قالوا: الإمام يعلم صدق الشهود من كذبهم. قيل لهم: فواجب أن لا يسمع شهادة الشهود غير الإمام، وأن لا يكون للإمام قاض ولا أمين إلا أن يكون بمنزلته في العصمة وفي العلم بمغيب أمر الشهود، ويجب أن لا يكون أحد من أعوان الإمام إلا معصوما مأمون الزلل والخطأ لما يتعلق به من أحكام الدين، فلما جاز أن يكون للإمام حكام وشهود وأعوان بغير هذه الصفة ثبت بذلك جواز كثير من أمور الدين مبنيا على اجتهاد الرأي وغالب الظن.
وفيما ذكرناه مما تعبدنا الله به في هذه الآية من اعتبار أحوال الشهود بما يغلب في الظن من عدالتهم وصلاحهم، دلالة على بطلان قول نفاة القياس والاجتهاد في الأحكام التي لا نصوص فيها ولا إجماع، لأن الدماء والفروج والأموال والأنساب من الأمور التي قد عقد بهما مصالح الدين والدنيا، وقد أمر الله فيها بقول شهادة الشهود الذين لا نعلم مغيب أمورهم وإنما نحكم بشهاداتهم بغالب الظن وظاهر أحوالهم مع تجويز الكذب