فإن الشاهد مأخوذ عليه بأن يأتي بلفظ الشهادة، ولو عبر بلفظ غير لفظ الشهادة بأن يقول (أعلم أو أتيقن) لم تقبل شهادته، فعلمت أنها حين كانت مخصوصة بهذا اللفظ وهذا اللفظ يقتضي مشاهدة المشهود به ومعاينته، فلم تجز شهادة من خرج من هذا الحد وشهد عن غير معاينة.
فإن قال قائل: يجوز للأعمى إقدامه على وطء امرأته إذا عرف صوتها فعلمنا أنه يقين ليس بشك، إذ غير جائز لأحد الإقدام على الوطء بالشك. قيل له: يجوز له الإقدام على وطء امرأته بغالب الظن بأن زفت إليه امرأة وقيل له هذه امرأتك وهو لا يعرفها يحل له وطؤها، وكذلك جائز له قبول هدية جارية بقول الرسول، ويجوز له الإقدام على وطئها. ولو أخبره مخبر عن زيد بإقرار أو بيع أو قذف لما جاز له إقامة الشهادة على المخبر عنه، لأن سبيل الشهادة اليقين والمشاهدة، وسائر الأشياء التي ذكرت يجوز فيها استعمال غالب الظن وقبول قول الواحد، فليس ذلك إذا أصلا للشهادة. وأما إذا استشهد وهو بصير ثم عمي، فإنما لم نقبله من قبل أنا قد علمنا أن حال تحمل الشهادة أضعف من حال الأداء، والدليل عليه أنه غير جائز أن يتحمل الشهادة وهو كافر أو عبد أو صبي ثم يؤديها وهو حر مسلم بالغ تقبل شهادته، ولو أداها وهو صبي أو عبد أو كافر لم تجز، فعلمنا أن حال الأداء أولى بالتأكيد من حال التحمل، فإذا لم يصح تحمل الأعمى للشهادة وكان العمى مانعا من صحة التحمل، وجب أن يمنع صحة الأداء. وأيضا لو استشهده وبينه وبينه حائل لما صحت شهادته، وكذلك لو أداها وبينهما حائل لم تجز شهادته، والعمى حائل بينه وبين المشهود عليه فوجب أن لا تجوز.
وفرق أبو يوسف بينهما بأن قال: يصح أن يتحمل الشهادة بمعاينته ثم يشهد عليه وهو غائب أو ميت فلا يمنع ذلك جوازها، فكذلك عمى الشاهد بمنزلة موت المشهود عليه أو غيبته، فلا يمنع قبول شهادته. والجواب عن ذلك من وجهين: أحدهما أنه إنما يجب اعتبار الشاهد في نفسه، فإن كان من أهل الشهادة قبلناها وإن لم يكن من أهل الشهادة لم نقبلها، والأعمى قد خرج من أن يكون من أهل الشهادة بعماه فلا اعتبار بغيره. وأما الغائب والميت فإن شهادة الشاهد عليهما صحيحة، إذ لم يعترض فيه ما يخرجه من أن يكون من أهل الشهادة، وغيبة المشهود عليه وموته لا تؤثر في شهادة الشاهد فلذلك جازت شهادته، والوجه الآخر أنا لا نجيز الشهادة على الميت والغائب إلا أن يحضر عنه خصم فتقع الشهادة عليه فيقوم حضوره مقام حضور الغائب والميت، والأعمى في معنى من يشهد على غير خصم حاضر فلا تصح شهادته.
فإن احتجوا بقوله تعالى: (إذا تداينتم بدين) إلى قوله تعالى: (فاستشهدوا